بقلم مها حسن
إذا كان كلّ عبد هو أسود، فكلّ أسود إذن،
هو عبد .
ليسمح لي "الأوان"، الذهاب بهذا العنوان الشيّق " الجدران اللامرئية " ، وهو يشبه فتحا في أقانيم سرية، أو إيغالا في غابات مجهولة، لم يسبق لأحد الاقتراب منها .
![]() |
الكاتبة مها حسن |
الجدران اللامرئية، هو اكتشاف مهمّ، بمثابة مجهر قويّ، لتسليط الضوء على حالات
الفوقية والاستعلاء الموجودة في الذهنية العربية، والقائمة على احتقار الآخر. الثقافة
التي نحياها بشكل سرّي في كلّ يوم، عبر تعبيراتنا التلقائية عن المضض من تواجد الآخر
المختلف .
لن أتوقّف طويلا عند الموقف من " السود " في سورية، البلد الذي قدمت
منه، لأنّ وجود السود نادر جدا، وكلّ " اسود " في سورية ، هو " أجنبيّ
". أو عربيّ قادم من بلد عربيّ آخر، كالسودان أو موريتانيا …
أريد أن أذهب بهذا الملفّ نحو أقنوم آخر، للتحدّث عن العبودية. والعلاقة الإشكالية
بين الحرّـ العبد، السيّد ـ الخادم .
في العقلية العربية التقليدية، وأنا لا أعمّم أبدا، بل أتحدّث دوما عن الوجه السائد
لهذه الثقافة، التي أحمل الكثير من مفرداتها، فإنه ثمّة تمازج بين كلمتي العبد والأسود.
وأظنّ أنّ الإسلام لم يلغ العبودية حتى اليوم .
كانت أمّي، وأظنّ غيرها الكثير من رجال ونساء المنطقة، تصف كلّ أسود بأنّه عبد،
وتطلق لفظة عبد على كل أسود. وفي القصص التي ترويها جداتنا، نقول " تحوّلت أمامه
إلى عبدة سوداء … "، للتعبير عن تغيير مشاعر الحبيب، الذي صار يرى حبيبته في أبشع
صورة. كما لو أنها مُسخت، فأصبحت في أسوأ شكل.
-2ـ
قل لي ماذا " تعمل "، أقل لك من أنت .
من خلال مشاهداتي لعلاقة العرب مع " الخدم "، أستطيع أن أجزم، أن العربيّ،
لم يتخلّص من عقد السيادة.
فمعظم العرب، وأؤكد دوما أن الحديث لا يشمل جميع العرب، بل أتحدث عن الثقافة العربية
السائدة، يتعاملون مع الخدم أو "الجراسين" بطريقة استعلائية. ولا يغفل أن
" الخادمة " وأحيانا " السيرلانكية "، أصبحت موضة في الثقافة العربية
البورجوازية، للدلالة على رقي هذه العائلة. وأصبحت " الخادمة " ماركة، مثل
السيارة، أو المجوهرات…
وفي خبر طازج أثناء كتابة هذه المادة، أنّ فتاة أندونيسية تعمل في استراحة بـ
"مكة المكرمة "، قد تعرضت للاغتصاب من 13 سعوديا، تناوبوا عليها. علما أنه
سبق أن تعرّضت إحدى الخادمات لسوء المعاملة، مما أدى إلى موت أطرافها الأربعة وقيام
الأطباء ببترها .
هذا يحدث، ليس فقط، لجهل الثقافة العربية بمفهوم حقوق الإنسان، ولكن لإصرارها على
التعالي في التعامل مع الآخر، والاكتفاء بالملاءة المالية، كمقياس وحيد وأساسيّ في
إطلاق الأحكام، وتقييم هذا الآخر .
تعجّ الثقافة العربية بالنظرة المشوّهة في التعامل مع بعض المهن، كما لو أنها متدنية.
فيتعامل العربي مع خدم المطاعم، كأنهم منحطّون . وتعتبر مهنة " جرسون "،
مهنة دنيئة. بينما هي في أوربا " مهنة " كغيرها من المهن، والكثير من المشرقيين،
" ورثة ثقافة الاستعراض "، يشتغلون كـ " جراسين " في أوربا، ويخفون
هذا عن أهلهم، فيتباهون بالتمويه أنهم يعملون في " المهن الحرة" .
كل هذا ناجم عن لغة المال السحرية، في العالم العربي، اللغة التي ورّثتنا الاستعلاء،
والدونية معا. وهذا فارق كبير نحسه في الغرب. ففي الشرق يتم تقييم الإنسان بناء على
" العدد "، أو الرقم المالي الذي يصرفه ويملكه .وأنا لا أبرّئ الغربي كثيرا
من هذه التهمة، إلا أنّ تعامل الغربيّ مع المهن " الدونية " يتّسم بذكاء،
أنه لا يعبر عن هذا، وإن أحسّ به .
فمن النادر أن تجد فرنسيا يعمل زبّالا، وهذه المهنة محجوزة تقريبا، للسود أولا
وللعرب ثانيا. إلا أن الفارق، أنه في الثقافة الغربية، فرنسا كبلد أعيش فيه نموذجا،
فإنّ صيحات الاحتجاج على هذا تنطلق من هنا وهناك، ويعرف الكثير من القراء العرب، الذين
لا يعيشون في فرنسا، حجم السخرية والتهكم والاستهجان الذي يقابل به الرئيس الفرنسي،
لاهتمامه بمظاهر مادية باهظة، كساعة الرولكس، التي لا تفارقه في برنامج " الغينيول
" الذي يسخر منه، ويسمّون سلوكه بـ " بلينغ بلينغ "، للدلالة على التباهي
بالترف، أو الترف التفاخري، إذا ترجمنا المفهوم حرفيا. كما أنّ " داتي "
لم تفلح حتى اليوم، وزيرة العدل الراحلة قريبا من الوزارة، بانتزاع صورتها في البرنامج
ذاته، وربما لا يهمّها الأمر، الذي يظهرها مع خواتمها باهظة الثمن، والتلميح إلى قيامها
بشراء أثوابها من أفخر الماركات .
في فرنسا، لا يعتبر ارتداء أحدهم لساعة الرولكس، أو تفرده بنزهة على " يخت
" تكلف أرقاما مذهلة، كامتياز أو فخر، أو فرصة للتباهي . لأنّ الثقافة الفرنسية
لا تزال في خير، ولا تبالي بالظواهر السطحية، بل تتظاهر وتحتج، وتهتم بصدق، بالأزمات
المالية التي تحيط بالبلاد. وهذا ما يميّز المثقف الغربي عن المثقف العربي، فالمثقف
الغربي منسجم مع ذاته، ولا تهمه نظرة الآخر، ولا تقييمه له، كرصيد في البنك، أو بزّة
أو طقم أو ثوب من شانيل …. أما العرب، وهذا يحيلنا إلى الرقابة بأوجهها المتنوعة، فلا
يزال المثقف العربي، والمثقفة العربية على الأخص، عبدا، أو عبدة، لمفهوم الآخر، في
تقييم أحدنا، من ماركة ثيابه، عطره، ربطة عنقه، الحيّ الذي يسكن فيه…
------------
مها حسن :
روائية وقاصة سورية -كردية
حاصلة على عديد الجوائز بما فيها جائزة هليمان/هاملت التي تنظمها منظمة "هيومان رايتس ووتش" الامريكية عن العام 2005.
تكتب بالعربية-والفرنسية وتقيم بباريس حاليا
هذه هي مدونتها http://maha-hassan.blogspot.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق