الجمعة، 8 نوفمبر 2013

في لقاء مع التبصير الناقد و الشاعر د.محمد عبدي:المنفى هو وجودٌ عتبيٌ ناقصٌ، يتمزق صاحبُه بين فضاءين ..

في إطار المساعي الرامية الى تحريك ساحة راكدة حد الموت السريري قررنا نحن في “التبصير” القيام بسلسلة حوارات و مقابلات مع شخصيات ثقافية و فكرية وازنة في المشهد الموريتاني و العربي.

ضيفنا حمل الحرف المثور نضالا وقضية وعرفته المنافي وعرفها في رحلته الطويلة لمناهضة التناقضات الاجتماعية التي يضج بها المجتمع الموريتاني..
كتب دواوين شعرية عديدة و ألف العديد من الكتب النقدية, التقاه “التبصير” في إطار مسعاه لإنعاش الساحة الثقافية والأدبية الوطنية..ضيفنا هو الشاعر والناقد الدكتور محمد ولد عبدي (الجزء الأول).

التبصير: يلاحظ المتتبع للدكتور محمد ولد عبدي ندرة حضوره في المشهد الأدبي الموريتاني خاصة في وسائل الإعلام خلال فترة التسعينات فما هو مرد ذلك؟

  أولا أبارك لكم هذا الموقع الذي نتمناه ” تبصيرا ” ثقافيا فارقا يزيل الغشاوة والعمى الثقافي والفكري عن بصر وبصيرة هذا المجتمع المقهور والمسحور، المقهور بفعل التاريخ والجغرافيا وما خلقا من ندرة تحكمت في مصائر القوم تدبيرا وتعميرا، والمسحور بفعل ثقافة نسقية تلقينية تَتَغيا التبريرَ في التفكير  والتعبير، مما يحتاج بالفعل إلى تبصير يكشف تلك الغشاوات ويُعيد للناس وعيَهم في لحظة فارقة من التاريخ الوطني.

 أما بخصوص سؤالك عن غيابي الاعلامي في عقد التسعينيات، فأنت ربما تعرف سياقات تلك المرحلة واكراهاتها وطنيا:  فلقد اتسمت بتصنيم السلطة والتهافت عليها، وتشيئ القيم وامتهانها، وسقوطِ القناعات الايديولوجية وتكشفِ أقنعةِ ذويها، مما دفعني مُجبرا إلى الهجرة، اتقاءً للسُّقوط في وحل ذلك الواقع النَّكِد المتدني، الذي تمرغ فيه الساسةُ والمثقفون دون حياء، وتهافت فيه الشعراءُ والكتابُ على القصر الرمادي متأبطين المجازَ عساهم به يقتاتون، دونما شعور منهم جميعا بأنهم همْ من خلق من السلطة طاغوتا وهم من رفعوا أعلامَ قبائلهم وجهاتِهم وفئاتِهم عاليةً على سارية العلم الوطني، فأجهزوا على ما تَبقَى من وطنٍ هشاشتُه في المنشئ بادية، فهل لي وقد حملتُ هذا الوعيَ ألا أتحملَ تبعات تبنيه؟ ذاك ما كان، فاغتربتُ مخافةَ أن يذكر التاريخُ لكم وللذين سيولدون أني اشتركتُ في صناعة طاغية أو ايقاظ نعرة منتنة، أو تبدلتُ عن الانتماء الجمعي ولاءً ضيقا لا وطناً يُبقى ولا حلمًا يُحققُ، هكذا آثرتُ الصمتَ الاعلاميَ على الأقل محليا في التسعينيات من القرن الماضي، لأن من يتكلم في تلك الحقبة لا بدّ أن يَتحدثَ لغةَ  التهليل والتبجيل، ولسانَ “الولاء” و”البراء”، وتلك شِنشنةٌ لا إخالني خُلقتُ لها، ورغم ذلك ففي التسعينيات وبفضل المأمن في الحياة والأمن في التفكير اللذين توفرا لي في الامارات العربية المتحدة مشكورة استعطت أن أُصدر مجموعةَ كتب ناطقة بالذي أتغياهُ شعرا وفكرا، فكان ديوان ” الأرض السائبة” و كتاب ” ما بعد المليون شاعر” وكتاب ” تفكيكات” و” كتاب ” فتنة الأثر” وغير ذلك مما صدر لاحقا في العشرية الأولى من هذا القرن.

التبصير: أنتم أحد المهتمين بالتناقضات التي يعيشها المجتمع و تحاربونها بالحرف والفكر منذ عقود فهل تعتقدون أن هذه التناقضات ما زالت “تسافر في الشخوص” كما قلتم في أحد آخر نصوصكم “شقاق الطين”؟

 إن ما تسمونه هنا بالتناقضات المجتمعية وأسميه بالأمراض النسقية، هو ذاكرةٌ موشومةٌ أسسها الزمنُ الثقافي في إدارته التاريخية للمجتمع عبر طلبه لِمَزِيَتَيْ المعاش والتعايش واكراهات كل منهما، مما بالضرورة يُولِّد صراعا على امتلاكهما، تتمركز بموجبه سلطةٌ تحتكرُ إدارتهما، وتولدُ بمقتضاه هوامشُ تتفاوت في الإقصاءِ حسب حظها من تلك السلطة وجودا أو فقدا، وهذا قانونٌ عام يسري على كل المجتمعات، ويتفاوتُ حضورُه وهيمنتُه فيها بحسب كسبها من المدنية وحظها من بناء الدولة، ذلك أنه كلما استغرقت مجتمعاتٌ ما في البداوة شحَّ عيشُها واحتدم الصراع على استملاك الموجود منه وبالتالي صعُب تعايشها بل واستحالَ، لأن لكل منها سرديتَهُ التاريخية واسطورتَه التأسيسية وفضاءَه الرمزي وحيزَه التداوليَ وهي أمور من منظوره  تعطيه شرعية الاستحواذ والتملك والاحتكار ، وبالتالي تُكسبه سلطةً يحسبها لن تدوم له وتستقيم إلا بنفي الآخر وتهميشه وشَيْطَنَته، مُستدعيا عند الضرورة مواردَ ذاكرته الموشومة،  أما في المجتمعات المدنية المنتظمة داخل الدولة الحديثة فإن المعاشَ والتعايشَ محكومان بقانون عام يحتكم إليه الجميعُ ويتساوى أمامه الجميعُ، لا يشعر فيه الانسانُ بأي تناقضٍ بين ما هو جديرٌ به وبين ماهو عليه في الواقع  المعيش، على عكس المجتمعات المتخلفة التي تتحدد فيها مصائرُ الأفراد قبل الولادة، لا حسب الكسب والكفاءة والعطاء، وذلك مكمن الأمراض النسقية التي أشرتَ إليها في سؤالك، وهو ما عليه الحالُ في وطننا العزيز موريتانيا، وهو كذلك ما علينا جميعا أن نقاومَ، ونعمل على تجاوزه، لأننا إن لم نبادر وندرأَ هذا الاختلالَ الصَّارخَ وتلك الامراض النسقيةَ التي ” ما زالت تسافر في الشخوص” عبر المسلكيات الخاطئة، والرُّؤية العمياء والتجاهلِ الغَبي لما يجري بوتيرة متسارعة في واقعنا اليومي المأزوم، فإننا نوشك أن نرمي بمصيرنا المشترك في بحرٍ من العنف الأعمى – لا قدر الله -، ليس لنا به من قبلُ قبيلٌ، وساعتها كما في قصيدة ” شقاق الطين” التي أشرت إليها:

لا جبلٌ يقيِ أحداً

ولا سُفُنٌ ولا مرسىَ

فهل غدُنا سنسلمُهُ لكفِّ الريح؟

سؤالٌ على كل منتمٍ إلى تلك الأرض وذاك المجتمع أيٍ كان تموقعُه أو تحيزُه أن يعمل على درء إقراره أوتقريره، عبر رفض كل ما من شأنه أن يوصلنا إلى الهاوية، ولن يكون ذلك الا بمكاشفة الذاتِ وفضحِ حيَّل الأنساق ومكرها الفائق وقدرتها على المخاتلة والتخفي وتغيير المواقع، وأحسبُ أن لكل منا امكاناتِه الكامنةَ  في بناء غدٍ يسع احلامنا جميعا وتأسيسِ وطنٍ يتسع لنا جميعا، فكلنا، مظلومٌ وظالمٌ عيالُ الله، وكلنا في ذلك المنتبذ تلاحقنا إكراهاتُ التاريخ وجراح الجغرافيا.

التبصير: المنفى أحد المفردات التي لا يمكن ذكر الشاعر الدكتور محمد ولد عبدي إلا و قفزت إلى الذهن, لماذا هذا الاغتراب وهل أفادتكم الغربة؟

المنفى هو وجودٌ عتبيٌ ناقصٌ، يتمزق صاحبُه بين فضاءين، وطنِ الولادةِ الذي لفظه ووطنِ الإقامة الذي لم يتملكه، ورغم ذلك ففيه من كليهما وجودٌ، وله في كل منهما قدمُ صِدقٍ، أنه يقف على العتبة بينهما في منطقة مأزومة، ما عاد يتملك الأول الذي ظلّ في تدنيه ينحدر قِيَمًا وأحلاما، وعيشا وتعاشيا، ولا هو أمتلك الثاني، وجودا غير منقوص، وإن احتضنه كأحسن وِفادَةٍ ولكن إلى حين، هكذا المنفى وقوف على عتبة بين وجودين، ينفثان في الشاعر روحَ الحنين إلى وطن مُتخيل يجمع مشتركات الوجودين، و يقاربهما في نصوص تفضح سرَّ الهوية وكينونتَها، إذ ليست الهويةُ وجودا مُعطى كما رّوجَ لها المبلسون أصحاب الايديولوجيات الصماء، وظنوها قدرا تشكَّل قبلَ الولادة، أو هي جوهرةٌ مكنونةٌ في نقطة ما من التاريخ ضاعت، وعلينا استعادتها، معتمدين قياسَ الشاهد على الغائب، وإنما هي وجودٌ يتشكل باستمرار، ويُكتسب باستمرار ويُراجع باستمرار ويُنتقد باستمرار، هكذا تتجدد الحياة، وهكذا يعمل المخلصون للأنسان من أجل ألا تنغلق الحدودُ وتتعطل اللغة بينه وأخيه الانسان.

 ذاك عزيزي هو فهمي المتواضع للمنفى ورؤيتي الحؤول للهوية، أما لماذا المنفى فهو سؤالٌ يحرك الكثير من المواجع والعديد من المواجد، فالغربةُ، أيها الشاعر الجميل، ليست بالضرورة مرهونة بالمَهَاجِر، إنما أصعبها وأعمقها وأعقدها ما كان في الوطن ذاته، وهو معنى أشار إليه من قبلُ شيخُنا أبو حيان التوحيدي قدس الله سره، وهو ذاتُه ما كنت عشتُه أنا بين ظهراني ذلك الوطن المقهور والمهدور، لذا اخترت “مجبرا” أن أهاجر، مخافةَ سقوط الضّمير، والغدر بالشاعر داخلي، وخيانة من تشبثوا بي حلما يُشام، وأنا في ذلك على سنة خير البرية حين سنّ الهجرةَ، وعلى درب صاحبنا الشنفرَى حين أوصانا مَعشرَ الشعراء أن ” في الأرض منأى للكريم عن الأذى”.

أما هل افادتني الغربة، فهو أمر بَدَهيٌ بلا شك، نعم أفادتي على صُعُد شتى، أفادتني بأن دَرأَتْ عني السقوطَ في وحل الأحكام المتلاعنة في وطني المسلوب، ولم أركن إلي أي منها رغبا أو رهبا، وأفادتني بأن اطعمتُ أبنائي حلالاً، لا شِيَةَ فيه من حقٍ عام أو خاص، مَردَ “المستأمنون” في وطني على استحلاله وهو جهنمُ ذاتُها، إذ كفَى بالمقهورين هناك يَتامىَ، وأفادتني الغربة ثالثا بأن فتحت لي عوالمَ انسانية عديدة، أدركتُ من خلالها أن الانسانَ خَيِّرٌ بطبعه، إذا اعترفتَ بوجوده ولم تنفه، وأن إدارةَ الهويات المتعددة أمرٌ ليس بالمستحيل على الاطلاق، وكفى التجربة الوحدوية المتميزة في الامارات العربية المتحدة دليلا على ذلك، حيث أزيد من مأئتي جنسية وافدة غير متجانسة تعايشت كلها في أمن وأمان، وأُديرت بحكمة وحنكة، رسم خطوطها العريضة المغفور له صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وأخيرا استفدتُ من الغربة أني راكمت تجاربَ ونصوصا ومعارفَ ما كنت لأحصل عليها لو لم أهاجر وتتسع رُؤايَ وتنفتح على جهات العالم المختلفة.
الجزء الثاني:
الشاعر و الناقد د.محمد ولد عبدي: النقد في موريتانيا قائم على المجاملة والتحيز لغير الإبداع!

في الجزء الثاني من المقابلة التي أجريناها مع الشاعر و الناقد الموريتاني و عضو اللجنة العليا لبرنامج أمير الشعراء د.محمد ولد عبدي وصف النقد الموريتاني بأنه قائم على المجاملة و التحيز لغير الإبداع كما تحدث غن غربة يعيشها الشعر الموريتاني و أشياء أخرى في هذا الجزء الثاني من هذا الحوار الصريح و الجريء.

التبصير: النقد الموريتاني متهم بالمجاملة والانتماء لغير الإبداع والخلق لذا لم  يستطع حتى الآن تقديم أية موهبة للجمهور.. و أنت الناقد هل توافق على هذه المقولة؟

لا بد في البداية من تحرير المفاهيم، فالمفاهيم كما هو معلوم معالمُ، إن اتضحت تجلَّى المعنى واستقامَ، وإن غمضت تعاظلتْ الدلالاتُ واستغلق الفهم، لذا فوصفك النقدَ بالموريتاني، قد لا أوافقك عليه، ذلك أن النقد علمٌ، له حدُّه وموضوعُه وفرضياتُه وآلياتُه، وهي خصائص وسمات تُحرره من التخصيص الجغرافي، حالُه في ذلك حال العلوم البحتة، مع الفارق في الدرجة، فهل يمكن الحديث مثلا عن فيزياء امريكية أو كيمياء بريطانية أو رياضيات فرنسية وهلم جره؟ لكننا يمكن أن نغير الصيغة ونتحدث مثلا عن هذه العلوم في تلك البلاد، فنقول الفيزياء في أمريكا أو الكيمياء في ابريطانيا وهلم جره، وعليه فإننا لا ينبغي أن نتحدث عن ” نقد موريتاني” وإنما عن “النقد في موريتانيا”، لأن العلم لا ينتمي، على عكس الفن الذي ينصبغ بخصوصياته السياقية، فيمكن مثلا أن نتحدث عن ” الشعر الموريتاني” بوصفه شعرا تراشح مع سياقاته البيئية والثقافية والاجتماعية وتبادل معها التأثير والتأثر، وهو أمر قاربناه في كتاب ” ما بعد المليون شاعر ” ويمكن لمن يروم التفصيل أن يعود إلى ذلك الكتاب.

أما حكمك على هذا النقد بأنه قائم على المجاملة والتحيز لغير الإبداع، فهو أمرٌ أوافقك عليه، وإن من منطلق أشملَ يرتد في نظري إلى البنية العميقة لعقل انسان تلك اليابسة وعلاقاته بآلية المجاز الذي يقوم عليه الشعر،  وهو عقل بطبيعة الحال جزء لا يتجزأ من العقل العربي المُنبني على بنية البيان، كما أوضح ذلك المرحوم محمد عابد الجابري، ومعلوم أن البيان قائم على المجاز والمجاز يتعرف بكونه ضد الحقيقة، وعليه فقد تسرّبَ كلُّ ذلك إلى البنية الذهنية والمنظومة الاخلاقية والأنساق الاجتماعية، فأضحت كلها قائمة على المجاز، وهو حكم يتفاوت بطبيعة الحال من قطر عربي إلى آخر، حسب حظه من المدنية القائمة على قراءة الواقع برؤية حسية ملموسة، تتشيَّدُ في االأرض وليس في الخطاب اللغوي، كما حال المجتمع البدوي الذي لا يؤمن بالسببية ويحكمُ الانفصالُ رؤيتَه للعالم، وبهذا أبرر احتفاءَنا في موريتانيا المبالغ فيه بالشعر. ذلك أن أصدقَ الشعر – كما هو مقرر في النقد- أكذبُه، وعليه فقد تباهينا بأننا ” بلد المليون شاعر” دون أن ندرك خطورة ما يتخفى خلفَ هذا الحكم، لهذا فلا غرابةَ أن يكون الخطابُ المشيّدُ على ضفاف الشعر عندنا يحكمُه النسقُ نفسُه المتخفي خلف الشعر، لأن النقد ما هو إلا خطابٌ على خطاب، وقسْ على مجازيتِه ومزاجيته و”كذبه الصادق” غيرَه من الخطابات بل والمسلكيات السياسية والاجتماعية والدِّينية، ولا تحسبنَّ ظاهرتيْ “التصفيق” و”اللحلحة” تؤولان بغير هذا القانون الثقافي، فهناك اجماعٌ ضمنيٌ بيننا على تبادل الكذب والنفاق الاجتماعي والسياسي والثقافي والدِّيني، وهو حكمٌ أدرك ما فيه من قسوة ولكنه الواقع المتجرد من  سحر “المجاز”، وما لم نمارس النقد على ذواتنا وأنساقنا المضمرة فإننا سنظل نرسف في عمىَ ثقافي مقيت.

التبصير: الشعر الموريتاني قبل عقود كان يعيش غربة في وطنه ويهمل واقعه المحيط به بينما يصف واقعا آخر أقل التصاقا به هذا ما يقوله الكثير من الشباب ما رأيكم؟

إن هذا الحكم النقدي صائب إلى حدٍ كبير، وهو أمرٌ استشعرتُه شخصيا منذ الارهاصات الأولى لتجربتي الشعرية وعملت على تجاوزه كما سأوضح لاحقا، كما عملت على تأويله نقديا، فإذا به يُخفي خلفَه نسقا ثقافيا  نشأ مع ميلاد الدولة الوطنية تمثل في السَّعيِ إلى إثبات هوية مهددة من النخوم، ومشكك فيها من الأقربين، فعمل الشعراءُ والمثقفون منذ ذلك التاريخ على اثبات التماثل مع ما أسميتُه بـ”الشاهد الأمثل” في المشرق العربي، فعاش الشاعرُ رؤيةً ولغةً وتجربةً في تلك البيئة منسلخا من كينونته الزمانية والمكانية، وخصوصيته التاريخية والاجتماعية، وظل المثقفُ ينافح  من أجل إثبات ذلك التماثل الذي يرى أنه لا يقتصر على المكونات البشرية وحسب وانما يتجاوزه إلى المكونات البيئية، مما جعل تلك التجربة تفرض نفسَها على الشاعر الموريتاني القديم والحديث وتقترحُ عليه رموزها وأساليبها في التفكير والتعبير، غير أن هذه الخصيصة مع تجاوز عقدة الانتماء وتراكم تجارب شعرية وطنية وازنة بدأت تختفي شيئا فشيئا، خصوصا مع تزايد إكراهات الواقع المحلي وميلاد ثقافة جديدة هاجسة من مختلف التحولات الاقليمية والدولية.    

التبصير: الجسر الذي سيوصلنا إلى العالمية ينطلق حتما من المحلية, هل يمكن للأدب الموريتاني أن يصل إلى العالم العربي والعالم بمفردات واقعه المحلي و خصوصيته الثقافية كونه همزة وصل بين إفريقيا والعالم العربي؟

 سؤالك هذا يحمل ضمنا إجابته، نعم إن الوصول إلى العالمية  يمر بلا شك عبر جسر المحلية، وأعني هنا بالمحلية تشرُّب الأديبِ روحَ مجتمعه والاستغراقَ في واقعه حدّ ملامسة  مُشترك الذّاتِ الانسانية فيه، فالقيم والمثل والمفاهيم  مشتركاتٌ انسانية، لكنها ترسو عميقا في الرُّوح، وتحتاج إلى حس مرهف شفيف قادر على اجتراحها بصدق وعمق واحتراف، أفليست مفاهيمُ كالحب والكراهية والحرية والقهر والحرب والسلام والعدالة والظلم مشتركات انسانية عامة بأي لغة عُبِّر عنها، سيصلك معناها كما قاربه فنانٌ أو شاعرٌ أو روائي؟  إن محدوديةَ انتشار لغة ما أو الاستغراق في واقع محلي معين، لم يكن يوما عائقا أمام الانتشار العالمي، ولنا في الحاصلين على جوائز نوبل في مختلف اللغات دليل قاطع، أولم يستغرق غابرييل غارثيا ماركيث في الواقع الكولومبي المحلي، عبر قرية خيالية صغيرة تدعى “ماكوندو” في روايته ” مائة سنة من العزلة” ، ورغم ذلك حصل من خلالها على جائزة نوبل للآداب وترجمت إلى أغلب  لغات العالم؟ إن الأدب الموريتاني قادر على الانتشار عربيا وعالميا إذا استطاع أن يتشرب روح واقعه ومجتمعه ويستثمر خصوصياته السياقية  المتعددة التي تعتبر مصدر ثراء لا مصدر تخندق كما يحترف ذلك المتشربون بالكراهيات الصَّفيقة، المقتاتون على وهم ذاكرة مشروخة ولغة محنطة خرساء.

التبصير: يلحظ المتتبع لكتابات الشاعر محمد ولد عبدي حضور الثقافة الوطنية بشكل كبير كمتكئ لتجربته الإبداعية هل هذه المدرسة واسعة الانتشار في موريتانيا و ما موقفكم من الساحة الشعرية الموريتانية اليوم؟

حين بدأت تجربتي الشعرية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، تواكب ذلك مع انفتاحي على التجارب  الشعرية في المشرق والمغرب العربيين، وعلى ما تيسر من تجارب شعرية فرنسية وافريقية، كنت أشعر وقتها وبحدس فطري أن لكل مدونة من تلك المدونات خصوصياتها، وأن مشتركها لا يتجاوز حدّ جمال اللغة وفي بعض الحالات النادرة تماثل الموضوعات، كانت تلك التجارب تمتعني حدّ الحفظ، ولكنني لم أكن أجد فيها ذاتي مشاغبا يسعى إلى بصم خصوصيته الثقافية، كما بصمت هي ذاتها خصوصيتها السياقية المغايرة، بل أنني حين اطلعت على الشعر الموريتاني الفصيح وخصوصا القديم منه، لم أشعر بأي علاقة حميمية بيني وبينه، اللغة كلها مستعارة، الأماكن مستعارة، حتى ولو ضمَّها الحيزُ الجغرافي الموريتاني فإن تعريبها والصفات التي تُضفى عليها، تجعلها غريبة علي ومستعارة، الأخيلة مستعارة، الموضوعات – قديمها بل وحديثها- مستعارة، لهذا كله يممت شطر الشعر الشعبي ” الحساني” ووجدت أن أصحابه أقرب إلي، وأنهم يتحدثون عن أشياء أعيشها، واماكن أعرفها، و فقدٍ صادق أحسّه، فخضت في البدء تجربته وتشربت به نصوصا ، غير أنني بحكم البيئة الثقافية والتكوين الأسري وحرص الوالد رحمه الله على تحقيقي لشروط الفتوة ودراستي عليه للقرآن ومتون اللغة والشعر، كلها أمورٌ رجّحت كفةَ الفصحى في مساري، وتمحضت تجربتي الشعرية لها، واعيا بضرورة بصم خصوصيتي الإبداعية، وتجسيد تجربتي الشخصية، متخذا عبارة استوقفتني لابن حزم ذات قراءة في “طوق الحمامة” دستورا شعريا، يقول فيها:  ” وما مذهبي أن أَنضِيَ مطيةَ سوايَ وأتحلَّىَ بحليٍ مستعارٍ“، ظلت هذه العبارةُ مذهبي وما تزال، أقمتُ حوارا ابداعيا بين الفصحى والعامية، وجعلتهما يتراشحان في روحي، وطَّنت قصيدةَ الحداثة في موريتانيا، ومهرتُها بخصوصيتنا الثقافية قنطرةً بين حضارتين، واعتقد أني بذاك الصنيع قد أضفت إلى الشعر العربي المعاصر سحنةً يفتقدها، وأَرفدتُه بماء بيئةٍ بكرٍ كانت إلى عهد قريبٍ غائبةً ومُغيبةً، لقد عملت على خلق رموز وطنية عمَّمتُ دلالتِها عربيا، وعلى اجتراح لغة خاصة لا تنتمي إلا إليَ خلاسيَ الرُّؤى والأحلام، واعتقد أن تلك التجربة قد هاجرت إلى نصوص بعض الشعراء الشباب  المبدعين وتشربوها وعيا كتابيا ما يزال في طور التَّخَلق ولكنه واعد ومبهج وفارق وأصيل.

الجزء الثالث:
” المص”: آلية من آليات النبذ الاجتماعي والتَّسلط والعنف الرمزي ضدّ المهمشين
في هذا الجزء الثالث و الأخير من المقابلة التي أجريناها مع الشاعر و الناقد د.محمد ولد عبدي تحدث عن الحراك الاجتماعي الذي تشهده موريتانيا وعن برنامج أمير الشعراء و أشياء أخرى في هذا الحوار الجري و الصريح..

التبصير: الآونة الأخيرة ظهر حراك اجتماعي و سياسي للطبقات المظلومة تاريخيا هل تعتقد أنه بدون توحد هذه الأصوات المشتتة القادمة من الهامش يمكن أن يحدث أي تغير راديكالي باتجاه إنصافها؟

 أتابع عبر الانترنت ووسائل الاعلام ما يدور في الساحة الاجتماعية والسياسية الموريتانية وما يمور فيها من حراك ويتصادَى فيها من أصوات، ويتنادى فيها من تظلمات، وهو أمرٌ طبيعي يستجيب والشرطَ التاريخيَ المعيشَ في ظل انفتاح العالم وثورةِ الاتصالات وحركيةِ التواصل الاجتماعي، وهيمنةِ روح ما بعد الحداثة، التي استيقظت فيها الهوياتُ الأصولية في مختلف أنحاء العالم، غير أن ما يحدث في موريتانيا لا بدّ أن يُقرأ ضمن سياقه التاريخي وشرطه الاجتماعي، وأفقه المستقبلي، فنحن بلدٌ  نشأ في حدّه الجغرافي وبنيته الاجتماعية  ووظيفته السياسية بإرادة استعمارية، لا بحتميةٍ تاريخية، وأُقيمتْ هياكلُهُ التنظيمية على مرجعيات ثقافية تُكرس سلطةً نسقيةً خلقتها سردياتٌ تاريخيةٌ في أَزمنةِ التَّدافع وإرادة البقاء، لذلك ولهذا سيكون الانتقالُ من وضع الوجود القسريِ و ثقافةِ العنف الرَّمزي إلى الدولة المدنية الحديثة القائمة على مفهوم المواطنة أمراً عسيرا، له مخاضاتُه وتدافعاتُه واكراهاتُه، واعتقد أن الحراك الذي ذكرتَ هو نتيجة حتمية لخصوصية تلك النشأة كما أنه ضروري كخطوة لبلوغ دولة المواطنة المنشودة، غيرَ أنه  ينبغي أن يحترز ابتدء من حمل العيوب النَّسقية ذاتها التي يقومُ عليها نسقُ السُّلطة (الثقافية والاجتماعية والسياسية)،  فلا يَتَخَنْدق في هويات ضيقة عمياءَ كما حالُها، ولا يحترف العنف المادي والرمزي الذي تمتهنه، ولا يكرس الجَبْذَ والنَّبْذَ الذي تُمارسُه، إنه إن فعلها لن يكون سوى الوجهِ النَّسقي الآخر لتلك السّلطة، وساعتَها لن يستطيعَ  كسبَ أي رهان إلا بمُغالبَةٍ عَجماءَ قد تطيح بالوجود كله، خصوصا بالنظر إلى هشاشة المنشئ المشار إليه.

 غير أن مداخل النضال عديدة، أجلاها وآكدها الشراكةُ في التهميش، حيث الاقصاءُ المشترك والفقرُ المشترك والظلمُ المشترك والجهلُ المشترك، وهي مشتركاتٌ تتسعُ قاعدتُها ومنتسبوها بحجم تسلّطِ السلطة الزمنية، وتفشِي واستشراءِ الأنساق التاريخية، وساعتها ستضم بلا شك متظلمين مقصيين من مختلف شرائح المجتمع، لأن تلك المشتركاتِ مفاهيمُ لا هوية لها تاريخيا، وهذا صنيعٌ أجدى وأحزَّ في المفصل من التَمترُسِ خلفَ هواياتٍ شرائحية ضيقة لن تؤديَ إلا إلى تخندق مماثل يتوسل تاريخا لا يسنده سوى الاشتراك في ممارسة العنف الرمزي والتواطئ على نفي الآخر.

كما أن من مداخل ذاك النضال على المستوى المعرفي تفكيك الأنساق التقليدية المهيمنة وكشف حيَّلها السلطوية وقدرتها على التخفي في اللغة والرموز والاشارات،  وفضح أساليبها في سلب الإرادات وتسريب المسلمات الخرافية  وجعلها جزء من المخيال الجمعي، ولن يتحقق هذا المطلب الأخيرُ إلا بإرادة المعرفة وتحصيلها وتوظيفها من أجل تغيير الحال والمآل، وحينها سنكون جميعا موريتانيين هوية وانتماء، منصهرين في بوتقة واحدة متحدين في معركة وحيدة هي معركة التنمية والحلم المشترك، لا متخندقين في هويات خرساء تُفخِخُها كراهياتٌ متفلتةٌ. وبعد أوليست أمريكا بتعدد هوياتها بوتقة صاهرة أو قل جوزة هند، ظاهرها بألوانه وقلبها أبيض، لا يجمعها سوى حلم مشترك كبير؟

التبصير: أنتم عضو اللجنة العليا المنظمة لبرنامج “أمير الشعراء” مع ذلك يرى البعض أن الموريتانيين مستهدفون في هذا البرنامج و يظلمون باستمرار ما هو تبريركم لذلك؟

 أعتقد أنه لن يظلم موريتاني في أمر أنا فيه شريك، ولا في أمر أنا عليه شاهد، وإن وقع وتلك استحالة،  فقد سقطت من بساط الفتوة  على حدِّ تعبير شهيد القوم “الحلاج”. وإن ما قمت به من دور- يعاتبني عليه دائما زملائي في اللجنة العليا ولجنة التحكيم، ويعرفه جيدا شعراؤنا الذين شاركوا في مختلف دورات البرنامج- لهو أمرٌ لا أسوِّقُه لأحد، لأني لا أساوم على وطني أحدا، إن كل من يتلفع بياء النسبة الموريتانية هو في قلبي مكين، وخاصة إذا كان شاعرا، فكيف تتصوره يُهضم حقا في أمر أنا فيه شريك؟ معاذ الله وأحسب ظن “البعض” في سؤالك هو عينه ” بعض الظن ” في الآية.

التبصير: ما هو آخر كتاب قرأتموه؟

من آخر ما قرأت من الكتب، كتاب لباحث  مغربي يُدعى محمد بازِّي، بعنوان: ” نظرية التأويل التقابلي – مقدمات لمعرفة بديلة بالنص والخطاب – ” وهو مقاربة  نقدية عميقة تسعى إلى بناء نظرية موّسعة حول ما أسماه بـ”الكون المتقابل” و “الكون النصي المتقابل” ثم ” التأويل المتقابل” انطلاقا من بنية عميقة مؤسسة للمعنى، قائمة على التقابل المثنوي أو المتعدد، وقد أقام تصوراته على مجموعة من الفروض الاستكشافية أختبر من خلالها عددا كبيرا من النماذج النصية والخطابية. ويتميز هذا الكتاب بأسلوبه الاستدلالي المتماسك ، وبنائه النظري الباذخ، ومصادره العلمية المتعددة.



التبصير: ماذا تعني لكم  الكلمات الآتية: مصطلح “المص”, القلق, الموت, المنفى.

 ” المص”: آلية من آليات النبذ الاجتماعي ابتدعتها السلطة الثقافية امعانا في التَّسلط والعنف الرمزي ضدّ المهمشين، والأولى – إن وجد أصلا-أن يحترفه العارفون “بسرِّ الحرف” ومسالك العلوم، لا الأميون الذين لا يملكون تعبيرا ولا تدبيرا.

القلق: كلما ضاق الوطن واتسعت الأحلام فثمَّة للقلق وعشيرِه متسعٌ، ثم اعلم أيدك الله، أن الشعراء اعتادوا امتطاءَه ليلا عساهم إلى سدرة النص يفدون، وما “أبوعبادة” عن سنتهم بحائد، كيف وقد أمسك عروةَ الخمسين.

الموت: العدوة الوحيدة التي لا يحن إليها أحدٌ ولا يتغيب عنها أحدٌ.

المنفى: محرقة الروح وقلق السالكين، سألته من أنت ؟ قال: أنت.

التبصير: بماذا توصون الشعراء الموريتانيين الشباب اليوم؟

أوصيهم بعد تقوى الله، بالخروج من جلالبيب الماضي وخرف الذاكرة، وأن يدركوا أن الشباب ليس بالعمر وحسب وإنما بالفكر والرؤية والحلم، فيا ما رأيتُ شبابا في العمر ولكنهم للأسف أكثر ماضوية وتخلفا من أجدادهم، همُّهم التماهي بالماضي شعرا وفكرا ومسلكا فرديا وعلاقات اجتماعية، مُحنطي التفكير والتعبير، لا يبصرون أبعد من خطاهم، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهيهات ذاك إن هو إلا العمى الثقافي والخسران العقلي المبين، كيف أدامكَ الله، لوطنٍ ذاك شبابُه أن يُؤسسَ كيانا أو يحفظ وحدة أو يحقق حلما، أو يسابق سلحفاة في ميدان؟ ولا تحسبنّ الشعرَ بمفازة من هذا الحكم، فأغلب ما في الساحة الموريتانية الحالية من شعر واستثني القلة القليلة، إن هو إلا أشباهٌ ونظائر، مُتشرنقا في لُحْمَته البلاغية وبما تُتيحه هندسةُ الكَلِمِ وأساليبُ المجاز من وجوه التوافق والتأليفات، ليس له بالمكان ولا بالانسان اتصالٌ، فكيف باستشراف أفق أو رسم رؤية أو حمل أمانة.  ثم، أيدكَ الله،  كيف التعبيرُ عن واقع موّارٍ حؤولٍ بشكلٍ متصلب المفاصل ثابتٍ كُرِّرَ منذ الجاهلية حتى يومنا هذا، أيعقلُ أن نرفلَ اليومَ في أزياء الجاهلية كما فُصِّلت في أبحر الخليل؟ أوليست الأشكالُ أكثر دلالة من المضامين؟، ومن ذا الذي يستطيع أن يعبئ بحرَ المحيط أو بحرَ الرمال المتحركة في قنينة على مقاس أربع تفعيلاتٍ أو ثلاثٍ في شطر واحدٍ، أتراها تسعُه؟ أم ترانا سنظل نعيش بأجسادنا في القرن الواحد والعشرين وبعقولنا في القرن الأول للهجرة؟ لذا فشبابنا بصفة عامة والشعراء منه بصفة خاصة مدعون أن يجسدوا في شعرهم ذواتَهم زمانا ومكانا وحلما مستقبليا مشاما، وأن يعملوا على التأسيس لخطاب وطني حداثي قادر على انقاذ الوطن من المصير الكارثي الذي يدفعه إليه المنتجعون أصحاب سياسة البطون و”الساعة التي أنت فيها”، وهو خطاب نحن أحوج ما نكون إليه الآن، وأكثر احتياجا إليه مسلكا أخلاقيا ، بعد ما استحكم فينا فقد المناعة الأخلاقي.

التبصير: شكرا لكم على الوقت و سعة الصدر

أجرى الحوار: الشيخ نوح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق