بقلم ، عبيد
إميجن
ولــد الرئيس الأسبق لجمهورية جنوب
إفريقيا، في الثامن عشــر من يوليو 1918 حاملـا الإســم "روليهلالا"، ثم
أطلق عليه أفراد قبيلته لقب "ماديبا Madiba"
وهي تسمية تعني العظيم والمبجل، إنه أيضا لقب يطلقه أفراد التيمبو على الشخص
الأرفع قدرا بينهم وعلى نطاق أوسع عــرف بتسمية السيــد نيلسون مانديلا. تماما كما
عُرِفَ عنه كفاحه المستميت ونضاله الدءوب ضــد سياسات الفصل العنصري
"الآبارتهيد" التي كانت متبعة بإحكام على موطنه ومواطنيه
المُسْتَعْبَدِينْ، لقد ظل "ماديبا" في كل مراحل مسيرته النضاليــة يعتبر المهاتما غاندي مصدر إلهامه المتفرد، كما
حــاول كثيــرا أن يستند فـي مواقفــه
النضالية إلى فلسفة معلمه حول نبــذ العنف وسعى جادا إلى توجيه المؤتمر الوطني الإفريقي
ANC
صوب المقاومة السلمية.
ومَن يهن يسهل الهوان عليه
![]() |
احداث شاربفيل الفقير |
في 1948 فاز الحزب القومي المكون من
الأقلية البيضاء بالحكم في جنوب إفريقيا، ليسارع قادته من
"الآفريكانو-البيض" فور تسلمهم لزمام السلطة إلى إنكار الحقوق السياسية
والاقتصادية، الاجتماعية والثقافية على الأغلبية السوداء. و أدخلت في مؤسسات
الدولة تشريعات وخطط عنصرية من بينها سياسات الفصل العنصري "الآبــارتهيد[U1] " التي استهدفت من حيث الأساس عموم السكان
الأصليين للبــلاد وكذلك الملونيــن من الهنــود، ومن الجــدير بالذكر أن سياسات
الإحلال التي اتبعتها المملكة المتحدة لمدة تفوق 300 سنة في أقاليم البلاد الخصبة
قد مكنت من جلب وتشجيع مزيد من المستوطنين البيـض على الاستقرار والاستيطان، حتى
إذا ما حصلت جنوب إفريقيا على استقلالها سنة 1931 تكون مصائر السكان ومقدرات الأرض،
والواجهة الخارجية للجمهورية الوليدة، في ايادي هذه المجموعة المختارة، يتم ذلك
إبان شيوع نظرية سيادة العرق الأبيض وتفوقه على كافة العناصر الأخرى التي تعتبرها
النظرية مجرد "حثالة"[U2] مــن أشباه البشر قـد استقرت في وجدان المستوطنين
الذين سعوا إلى الترويج لها على نطاق واسع إلى جانب الإدعاء بأن السكان الســود
يقفون عائقا في وجه تقدم الاقتصاد والسياســة في جنوب أفريقيا.
كانت جنـــوب إفريقيا، بحاجـة لمصارع من
حجم "السوبرمان" نلسون مانديلا ليست مهمته فقط إلحاق الهزيمة
بالمستوطنين الآفريكانو بل أيضا إقنـاع الســود أنفسهم الذين كان بعضهم يرى فيه شرا
مستطيرا وشيوعيا كافرا بالرب..، الرب الذي فضــل البيــض ومكنهم من رقاب الســود، ثم
شاعت داخل الأوساط الشعبية مقولة أن "ماديبا" إن يريد إلا حرمانكم من
الخيرات التي جاء بها الســادة البيض،كان المستوطنون قد قدموا بالإنجيل والثياب
المزركشة والدخان، ونظــرت نخبة من القساوسة الجدد، وبعض المدربين من السود
أنفسهم، ممن استمرءوا الدونية و أنســاقت
سيقانهم خلف المستعبــدين في "ماديبا" الشــر المستطيــر على مصالحهم،
فطفقت هذه الطائفة تقدس البيض وتطيعهم بلا حدود، كما كان بالإمكان استخدامها رصاصا
في وجوه شعبها الثائر أو أحذية ينتعلها المستوطنون للدوس على السكان الأصليون.
![]() |
مع أحمد كاثرادا |
وفي تلك الفترة كانت حواضر وقرى السود في
عموم جنوب إفريقيا خاضعة لحكم يقوم على التمييز العنصري الشامل، إذ لم يكن يحق
للسود مهما كان قربهم من المستوطنين البيض القدرة على المشاركة في الحياة السياسية
أو مقاسمتهم إدارة شؤون البلاد، فكيف بحق المشاركة في عمليات الاقتــراع واختيار
ممثليهم الشرعيين. "بل[U3] أكثر من ذلك كان يحق لحكومة الأقلية البيضاء أن
تجردهم من ممتلكاتهم أو أن تنقلهم من مقاطعة إلى أخرى، مع كل ما يعني ذلك لشعب
(معظمه قبلي) من انتهاكات وحرمان من حق العيش على أرض الآباء والأجداد والى جانب
الأهل وأبناء النسب الواحد".
وعلى صعيد متصل، أثرت الحملات الدعائية
التي رافقت الحرب الباردة، حسب الكاتب أنطوني[U4] سامبسون في إفشاء سوء الفهم حول شخصية "مانديلا[U5] " وفي تضليل وخداع الرأي العام الغربي خصوصا
بكل ما له علاقة بالأيقونة السوداء أو بالــANC، وفي سنة 1963 تركت إدانة
مانديلا بالسجن مدى الحياة، بعد محاكمة جائرة شملت إلى جانبه معظم قادة
"المؤتمر الوطني" المعتقلين بتهم الخيانة العظمي والتخريب والتآمر ضد استقلال
البلاد، أثــرها السلبي على رؤية العالم للمعتقلين.
وفي الواقع فإن الخلفية العامة للزج
بنيلسون مانديلا في السجون تعود إلى حادثة شهيرة وقعت في 21[U6] مارس 1960 بعد إطلاق الشرطة العنصرية للذخيرة
الحيــة على مظاهرة سلمية شارك فيها 5000 من السكان السود في حي شاربفيل الفقير،
ما أسفر عن سقوط 69 قتيــلا لحظتها.
لقــد شكلت تلك الصفحة الدامية نقطة تحول
كبيرة في حياة "نلســون مانــديلا" فقــد أدرك أن الاضطهاد وسياسات
التمييز العنصري لن تزول إلا إذا توفرت القوة اللازمة لرحيلها فاتجه هو وزعماء المؤتمر
الوطني الإفريقي من أمثال والتـر سيسولو، وثامبو مبيكي والأستاذ أحمد كاثرادَا، وغيرهم
إلى فتح الباب أمام الكفـاح المسلح، عبر إنشاء جناح عسكري أسموه "رمح الأمة"
وأصبح مانديلا قائدا له وخلال تلك الحقبـة ظلت فئــة الوسطاء الســود تلك، تطعنه
في الظهر حتى يوم اعتقاله في الــ05 من أغسطس 1962، أي بعــد 17 شهرا من العمل
السري كان "ماديبا" خلالها قد رمى خلف ظهره فلسفة معلمه الأول، وجرب بالفعل
ممارسة أبعض الحلال عند المهاتما غاندي "العنــف".
قضى نيلسون مانديلا سنوات السجن المؤبد
متنقلا بين سجن جزيرة روبن أيلاند، قبل أن يتمكن في يوم 10 يونيو 1980 من تسريب
رسالة موجهة إلى المؤتمر الوطني الإفريقي جاء فيها : "إتحدوا! وجهزوا! وحاربوا!
إذ ما بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق نظام الآبارتهيد
العنصري"، واتضح للعالم وللرفاق أنه بعد ثمانية عشرة عاما في السجن يظــل
السجين 466/64 محافظا على تماسكه وما يزال يرابط على موقفه الثابت والحازم في
مواجهة نظام الفصل العنصري، ما اضطر السلطات اللاشرعية حينها إلى نقله إلى سجن
بولسمور في سنة 1982 حيث سيخضع هنالك لحراسـة أمنية أكثر تشــددا، ومع استمرار سنوات
السجن أصبح الزعيم الجنوب الإفريقي يمثل في عيون الرأي العام الدولي الرمز المثالي
للكفاح ضد التمييز العنصري، وبدأت الحملات
المغـرضة الموجهة ضده نضال المؤتمر الوطني الإفريقي تبوء بالفشل.
كل
ذلك، نتيجة لصمود واتساع دائرة التعاطف مع السيد نيلسون مانديلا، دوليا
والاحتجاجات الواسعة في الثمانينات المساندة له، و أعلنت الحكومات في العديد من
بلدان العالم الثالث مقاطعتها لنظام الفصل العنصري وعلى صعيد مشابه محليا ختمت
الجمهورية الإسلامية الموريتانية علــى جوازات سفر مواطنيها تحذرهم من السفر إلى
جنوب إفريقيا، كما أعلن ابرز المثقفين والفنانين تأييدهم لنضال نيلسون مانديلا،
شانها في ذلك شأن أغلب دول المعمورة.
وفي النهاية اضطر نظام الفصل العنصري
للجلوس معه وتقديم مزيد من العــروض المشروطة والتي ظلت أيقونة النضال الجنوب إفريقي
ترفضها، فبعد 23 سنة من الحكم على مانديلا عُرض عليـه الإفراج عنه مقابل تخليه عن العنف
كسلاح سياسي، إلا أنه رفض ذلك، وفضل البقاء في السجن، ومن بعدها وصف صموده بالأسطــوري.
أظهرت مواقف نيلســون مانديلا الحازمة، لمــدة
10 آلاف يــوم أي 27 سنة(1963-1990) عـن إصـرار وصمود غير مسبـوقين ممـا أجبر
المجتمع الدولي على ضرورة التحرك لإنقــاذ المــوقف من الخروج عن السيطرة، وفي
إحدى المرات أبرق مرة جديد إلى رفاقه من السجن قائلا ( إذا خرجت من السجن في نفس
الظروف التي اعتقلت فيها فإنني سأقوم بنفس الممارسات التي سجنت من أجلها)، وهكذا وجدت
حكومة البيض نفسها في ورطة مع كثافة الضغوط على الرئيس (بى دبليو بوتا)، حتى أن
الأخير تعرض فجأة في سنة 1989 لنوبة قلبية أدت إلى إحلاله بسلفــه فريدريك ويليام دي
كليـرك الذي سارع إلى إنهاء سياسة الفصل العنصري مقابل إعلان حزب المؤتمر الوطني الإفريقي
تخليه عن الكفاح المسلح.
ويحظى بطل الحرية والسلام والصفح بإعجاب
منقطع النظير لدى مواطنيه البيض والســود على حد سواء، كما صارت قصة مانديلا تشبه حكاية
الأسطورة أو الأيقونة المفضلة في العالم، فقــد تبين للمستوطنين زيف نظرياتهم
وتهافت قوانينهم المنحطة، وأتضح للســود أن المُستعبد هو الأمير، وأن الأســود المتخلف
صاحب الملابس المزركشة كغول الغابة ليس سوى ساحــر يلهم الجماهير، وأن الأفريكانوا
لم يجلبوا معهم سوى التمييز العرقي والصلف العنصري.
مسح السياسيون، والعلماء وقادة العالم
الحديث في العام 1993 عبراتهم في حضور مانديلا، وهو يتسلم جائزة نوبل للسلام فربما
رأوا فيه قديساً دنيوياً جعل مهنتهم تبدو للناس طاهرة، وارتقى فوق إخفاقاتهم، وهو
يتشح رداء المجد ويجلب العافية والمساواة إلى شعبه.
في الحلقة الأخيرة، حديث عن المصالحة الوطنية
وعن موقف السود من نتائج المفاوضات التي أدارها "ماديبا"!.
إلى اللقاء
[U1]كلمة تعني الفصل، لكن كل لغات العالم
تعارفت على عدم ترجمتها
[U2]مذهب نورديك العنصري: http://en.wikipedia.org/wiki/Nordic_race
[U4]محرر جريدة السو DRUM ومؤلف "السيرة
الموثقة" حول مانديلا
[U5]وتزامناً مع يوم ميلاده
التسعين في يوليو 2008 أقر الرئيس الأمريكي جورج بوش قرار شطب اسم مانديلا من على
لائحة الارهاب في الولايات المتحدة الأمريكية
[U6]أعلنت
الجمعية العامة للأمم المتحدة المناسبة يوماً عالمياً تتضاعف فيه الجهود من أجل
القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق