الثلاثاء، 19 فبراير 2013

مذكرات زيارة صحفي موريتاني لأثيوبيا(3) : بدايات التنكر للفقيه بابا ولــد معطا

كنت رفيقا للشيخ المريض طيلة رحلة كاملة
سمحت لـي الأيام القليلة التي قضيتها خارج الحــدود، بإدراك مزيد من مـواقف التنكر حيـال أشخاص رمت بهم الأقــدار يومــا لتبوء مــواقع روحية أو سيـاسية، كما ظل تصدرهم قائمة "قادة المجتمع وأصحاب الـرأي" لسنين متواصلا، قبـل أن تدفع بهم الأهـواء مرة واحدة إلى هــوة سحيقة من النسيان !.  

وكان للكاتب الراحل حبيب ولد محفوظ ضمن عمــوده الأسبـوعي "Mauritanid" بصحيفة le caleme السبق التام في إثارة موضوع  "العــار" الـنازل بالكبار ممن تبدأ القائمة في فقدانهم الواحد إثر الآخر، لذلك استخدم الراحل مصطلح "الإقـالة" باعتبارها طريق الشخــص إلى أن يجد نفسه ـ في أحسن الاحوال ـ وهـو يفتح "كـارنيه" لدى حانوتي الحي أو يبحث لــ"معاليه" عن موطئ قـدم ضمن حوارات "هايدباركية" صارخة من المقدر أن تنعشها مجموعات المترددين على سـوق "كبتال" المركزي.

غير ان مصطلحا آخر يمكنني ان أطلق علية تسمية "التخـلي" اصبح يتسع مع الايام دون أن يجد لها معالجا أو مشخصا يقدر على سبر أغواره وتجلية مظانه، لذلك تواصل كالآفة في حصد الضحايا وتفريخ أوضاع تغاير الاستنتاج أو المأمول من باقي الظواهر الاجتماعية، قبل ان تنبثق عن ذلك تحولات نفسية وشخصية مضرة.

أسفرت آفة "التخلي" المنتهجة عن مظاهر إجتماعية أو إقتصادية قاسية، دون ان يكون الضحايا في انتظارها أو في انتظار صنوف وآيات جديدة من "التنكر"،  و"الإهمال" أو"النسيــان"..، وغير ذلك من ألـوان إدارة الظهر لهم باعتبارهم اصبحوا ضمن لائحة المتخلى عنهم. وغيرهم من المجموعات التي تضم أشخاصا تكاد هيئاتهم ان تشكل طبقة اجتماعية مستقلة في بلادنا.

إنهم فعلا ضحايا، حين يستفيقون على "كرونولوجيا" الأحداث وهي تجرفهم من "مراتب ظــرفية"، إلى أشكال غير منتظرة.

في العام 2010 أسر إلــي سيناتور سابق عن بلدة بابابي" التابعة لولاية لبراكنة بهذا المصطلح، وأضاف "أنا نموذج صارخ للمتخلى عنهم!"..، فبعد أن مثــل الرجل المنتخب دائـرته الإقليمية وخــدم مشاريع واهداف النظام على أكمل وجه ولسنيـن عديدة، جـرى التخلي عنـه بجرة قلم دون أن يستفيــد من حقــوق التقاعد التي يمنحها القانون لكل سيناتور موريتـاني!.

ثــم خطر له أن يخرج من معادلة التواجد الظرفي بعد أكمل المهمة ووجد نفسه ضحية عوالم من التردي الخلقي و الإفلاس المادي ومـا يتصل بهما من مسائل غير منتظرة البتة، إلى العلن ويتكلم لكن دون جدوى،...يقولون إن حسابات الضميـر فرضت على السيناتور ذاك أن يختار الصمت ذليلا بعد ان ما عـاد يجـد خادما سـوى سيقانه اللتان تحملانه أو هو يكابد في جيئته وذهابه  المشي على الأقـدام لساعات، ولقــد أتاح التخلي عن الرجل لمناوئيه النظر الى جديد ظروفه العويصة وأطوار معاناته الشاملة وأهوال مكابدته لشظف العيش بعيــن تكيد له حبورا ومسـرة.

ولم لا؟ وقد أكمل الرجل تأدية دور "الكومبارس"، منصاعا وراء أي دور ثانوي كان قد سك على مقاس متـآكل، بحيث تقصر أو تطول فترات مهماته بناء على اكمال المشهد، والنتيجة هي تنكر "الأبطال الرئيسيون" لصاحب الدور. ويمكن الجزم عاليا أن مسألة سقوط هؤلاء الرجال تجري وفق قواعد صارمة وتصاميم لسيناريوهات ممهورة على الدوام بمشاهد خشبية بحيث تبقى عصية على "التليين" غير ان للظاهرة على الدوام صبغة عرقية في الإجمال.!!!!

سأتناول في هذه الحلقة حالة شيخي الجليل؛ عالم التركة المشهور "بابا ولد معطا"..، في وقت يتضامن معه كل الموريتانيين، ويتمنى له المؤمنين الشفاء من كل أسقام أو أمراض قــد تلحقه جراء مظاهر "التنكر والإهمال",,، لقد قرأت في سبيل ذلك بإمتنان وترو نداءات رجالات الثقافة والسياسة وخاصة مبادرة عمدة مدينة أوجفت السيد المخطار ولد أحمين اعمر، وكذلك حملات التبرع التي قادتها صفحات التفاعل الاجتماعي.

كما تابعت لأيام كيف دارت أحاديث المُحْبَطِين من تنكر الحكومة واحجام الرئيس محمد ولد عبد العزيز!، واستنكار الساخطين من تردد القوى الحزبية والمدارس الروحية عـن مــد يد العون للشيخ وهو في محنته!!، كما تابعت بإطمئنان إستجابات المنجدين؛ فرادى وتنظيمات وكل من تطوع لفقيه تكاد تستبد به سطوة "فقــدان الذاكرة"!.  

*****

دجمبر 2011- إلتقيته، أمام سلـم المسافرين على متــن الملكية المغربية كان رجـلا مكتنـزا دون بدانة، وذا سلوك رزين، رتيب ووقور،..ثقيـل الوطـأة وينتعل خفيــن جلـدييــن لائقــتين برجل ديــن، أيضا كان ذا وجه باسم ومستديـر بحيث يعتمر حوله "لثاما" أبيض اللون و سميكا، وبمهارة كان عارضا من العمامة يلتف حول الرقبة مـرورا بذقنـه الحاد بينـما يكدس البقية فــوق رأس بات الشيب يغزوه بإصرار، إنه منظر لا يخلوا من صفات تقترب به من الزعامة القبلية، رجل ستيــني، تستوطنه البساطة، إن  "فضفاضته ذات اللون "السيكة"... رخيص الثمن! لتفصح عن ذلك، لقد ظل الرجل محافظا على مظهره طيلة ايام سفرنا.

انه أيضا صاحب النظرة الوادعة والمتفحصة لكل من حوله،  أحيانا تكون نظرة متسائلة أو هي في أحاييـن أخرى  غير متوقعة وربما تثير في مرافقه مزيدا من الإستغراب!. 

قــدمت لنيافته شخصي، محدثا إياه عن امتهاني للإعلام بالإضافة الى اهتماماتي الحقوقية الطاغية، وعن مساهماتي المقروءة حول قضايا المجتمع، وتابعت ثرثرتي وعينـاه تحدقان بــي، ثم أسلم مسبحته ليسراه مصافحا ومرحبا قبل ان يدعوني للجلوس إلى جانبه، وأن أقنع المضيفات بضرورة البقاء معه...، ومن ثمة مضيت اشركه في حوارات تلك الليلة الشتوية التي لا تنتهي مستعرضا معه قضايا العدالة الإجتماعية، وضرورة احداث تقاسم للسلطة والثروة بيـــن كافة الموريتانيين، وعن رفض الهامشية والإستكانة للظلم والخوف.

وكانت معادلة فضيلته رافضة لشحن نفوس المواطنين بالبغضاء والغل على حد تعبيره، كما عبر عن عدم رغبته في شق عصا الطاعة على ولي الأمر "عزيز هذا رئيــس يخدم الصالح العام وسيحل كل المشاكل المطروحة على الدولة والمجتمع"، وهــي دعوة عبرت له فيها عن استغراب شديد بإعتبار "عزيز" يتنكر للقوى السياسية في البلد، ويلعب في غير صالح الضحايا من "العبيد" والذين عانوا جراء التنكيل بهم سنوات الجمر والنار، وعبرت له عن موقفي من "عزيزا" باعتباره هو أفسد رجل يمسك بتلابيب السلطة في تاريخ موريتانيا، لكن الشيخ الوقور ظل "ديمقراطيا أكثر مني"..، وطيلة أيام وليالي السفر كان يتعمد اغاظتي ويستفيض في الحديث عن أنعام الرئيس عزيز عليه، وعلى أنه هــو الذي إختاره بنفسه للذهاب مع الــوفد الحكومي.!!؟؟

غير أنني كنت عـونه المفضل ونقطة إرتكازه في تدبير شؤون و إجراءات السفر.!، وسأحكي اجزاء مما شاهدته وعايشته خلال أيـام مع العلامة بابا ولد معطا،.

وسيقتصر الحديث على تلك المرحلة التي قد لا أتمكن خلالها من إدراك عوالم الرجل و كوامن نفسه، لذلك سأتحدث عن مظاهر كانت قــد إنقطعت بعيد السفــر، حيث إنقطعت الصلاة بيننا.

لأسباب قاهرة الكل يعرفها.؟

*****

كنا في العاصمة أديس أبابا، كما قلت آنفا وكان الحدث ممثلا في أكبر مؤتمر دولي حول وباء السيــدا بإفريقيا وعلاقته بتنمية القارة ICASA 2011 in Addis Abeba  ، وهو المؤتمر الذي عبأت له الحكومة الفيدرالية خلال ذروة استقبالها لما يزيد على 7 آلاف مشـارك، من بينهم رؤساء دول وحكومات وممثلين عن حركات المثليين الجنسيين وأشخاص يتعايشون مع فيروس الــ VIH، وكذلك أعضاء منظمات مكافحة الوباء والفاعليين الاجتماعيين في حقول الاعلام والصحافة وشخصيـات تمثل الأديـان كلها (الاسلام، المسيحية والبوذية واليهودية وكذلك الديانات الوثنية بإفريقيا).

وكان من المفارقات ان الحكومة الموريتانية أرسلت مجموعة من الخبراء والفنيين وبعض نشطاء الجمعيات الشبابية الذين تحصلوا على تذاكر السفر و الاقامة من قبل صندوق الامم المتحدة للسكان، أو مكتب البنك الدولي بانواكشوط..، وكان الإنقسام حاصلا بين الطرفين وبشكل طريف إذ ان الكل ينظر إلى حجم التعويض الذي حصل عليه المشارك من الجهة المانحة ويحقد عليه أو يزايد عليه تمثيلا ووطنية هههه، فلقد أصبحت منح البنك الدولي عند البعض مصدر فخر واعتزاز بالوطنية!!!، بينما كانت البلدان الأخرى في الغالب قد أوفدت شخصيات سامية في حجم رؤساء دول أو حكومات واحيانا اعضاء في الحكومة بمرتبة وزير!!؟؟.

في ورشة الأديــان، التي انعشها أحد رجالات الدين المنتدبين عن أسقف داكار الكاردينال " Théodore-Adrien Sarr  تيودور أدريان سار" اثارت مداخلة الشيخ معطا حول عـلاقة الدين بالعلم وفي أسبقية التعاليم الاسلامية أمام الاكتشافات العلمية، موجة من الاعجاب حتى من قبل المئات مــن المشاركيــن المتحمسين قبلا للعلم.

وفـي إحدى اللحظات، إحتج أحد المشاركين متسائلا عــن هوس رجالات الدين بالأخلاق؟؟؟؟ عندما كانت موعظة الشيخ الوقـور قـد ركزت تماما على عواقب الانحلال والحرية الجنسية مفرطا في شرح مدلولات كلمة الفاحشة باعتبارها بابا لحرية المعاشرة الجنسية كما وردت في الآية " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، ثم عاد شيخنا معطا ـأطال الله بقاءه ـ موجها حديثه إلى السائل قائلا له "إن كنت تنتمي إلــى طابور الاباحية فإنني أقول لك لقد بدأت أوكاركم تنخر مجتمعاتنا الافريقية وتدمر عائلاتنا، فهل أنت من هؤلاء؟؟ وأطرق المتدخل خجلا من نفسه وقال "لا لست منهم سيدي الشيخ؟!!  ثم صاح أحد المثليين قائلا "نحن لا نشجع الانحلال لكننا نريد أن إستعادة حياتنا العادية وعلنا، ألسنا بشرا مثلكم ، لكننا خلقنا هكذا!".

وكنت أنا استمتع بشيخ يوشك ان يجذب إلى الأديان مؤمنين جدد، أو يربح الجزاء جراء موعظته على كل الأحــوال، قبل أن يحظي في خاتمة مداخلته بعاصفة من التصفيق والإعجاب ومن أتباع كل الأديان، بل وحتى من غير المتدينين أيضا، ولقد رأيت أحد  علماء المختبرات الذين يعتقدون بأن فيروس VIH ليس بالضرورة ناتجا عـن تفشي الممارسات الجنسية، يحييه وبحرارة.

لقد كان الخطاب الديني لدى الشيخ معطا متساميا، ومتسامحا ومفحما وبامكانه أن يفتح الباب لإستيعاب المخالفين والمشككين قبل أن يحاججهم بلغة الظرافة والكياسة ولذلك راح الفقيه يتنقل في موضوعاته المحببة بين لغة "مولييــر" الراقية  والعــودة للاسئناس بالإستشهادات والاقتباسات من لغة "سيبويه"!.

وبالرغم من أنني أصبت كغيري بالإمتعاض الشديد عندما ختــم الرجل مداخلته بالامتنان والشكر لـــ"ولي نعمته" محمد ولد عبد العزيز باعتباره هــو الذي ابتعثه إلى المؤتمر لتمثيل موريتانيا! غير أنني أشهد على أن الرجل قد تمكن بالفعل من تمثيل موريتانيا في مؤتمر لم تستطع حكومتها ان تـسير إليه بــوفد منسجم أحرى أن يكون رسميا؟. كما لم يطأه السفير الموريتاني المعتمد بأديس أبابا بالرغم من تكاثر رؤساء الدول والحكومات التي حضرت بصفتها معنية بتنمية القارة ووقف زحف وباء (السيدا أو الآيدز[x1] ).

إن الشيخ بابا ولد معطا كان في ذلك المساء أرفع رجل ديـن إسلامي يقف على المنصة، بالاضافة إلى كونه مواطننا الوحيد الذي عزز من فخرنا بالانتماء إلى موريتانيا.

بعيــد المداخلة، كنا مدعويين إلى عشاء لدى منزل المستشار الأول للسفير وهو السيـد "سيدي كامرا"، وفي تلك الجلسة غير الرسمية، أدركت أن "التخلي" و"التنكر" سينزل لا محالة بالفقيه الذي سبق وأن حدثني بكونه يعيش في ورطة مالية وأنه يتابع علاجه حول مرض "السكر" بحيث بات يفتقد إلى الأمــوال، لذلك سيرشد الفائض من المنحة المالية لحاجته إليها عند العودة،...

ولكن هيهات، فلقــد ووجه تفاؤل الفقيه  بحماقة رئيس الوفـد الحكومي وهو يطالب بإستعادة المبالغ المتبقية من المنحة المالية التي قدمها مكتب "البنك الدولي" للمشاركيــن من موريتانيا، وقــد عبرت لذلك الشخص عن سخطي ورفضي لتنكره للنجاح الذي قاده الشيخ بابا ولد معطا!.. وهــل تقدر الحكومة أو وزارة الصحة او البنك الدولي على تحصيل المجهود الفكري الذي ساغه الفقيه أمام الجموع التي توافدت من كل أنحاء العالم!؟؟؟؟

أيضا، أحسست بطعنة أخرى عندما صاح أحــد الدكاترة فينا "أن أخـروا الشيخ فهو ما عاد يصلح للصلاة بعد أن فقد الذاكرة أثر حادث سير"..

لقد كثر الكلام وإحتــدت المواقف وعبرت عن إستغرابي لما حدث مقدما مقاربة واقعية حول الأسباب التي جعلت الحكومة تدفع بالشيخ بابا ولد معطا إلى منصة الخطابة والمناصرة في مؤتمر دولي ثم تتنكر له حين يهم بصعود المنبر"!!!،... وظهرت مشكلة جديدة بعد أن أصبحت اسمع لغة غير مفهومة؟ وشعرت بالحاجة إلى مغادرة الصالون الذي ما عــاد يتسع للجميع.    

وانا انهي هذا المقال نمى إلى علمي أن الرئيس عزيز قد إستجاب لمناشدات المواطنين ورق لحال الفقيه الذي أقعده المرض، وأنهكته تكاليف العلاج، وأحس بــكون"التنكر" قد طاله، وهذا لربما يندرج في رعاية رجل مريض ولكنه داعم ومرتبط بالسلطة القائمة وكذلك الرئيس الحاكم.

"اللهم أشف بابا ولد معطا شفاء لا يغادر سقما"







 [x1]34 مليون مصاب بالسيدا في القارة الفريقية، و83% من الوفيات بسبب الوباء في افريقيا جنوب الصحراء.
في اثيوبيا وحدها 2.4% من مواطنيها مصابين بلفيروس
وفي موريتانيا تقدر نسبة الاصابة بــ1% من اجمالي اعداد السكان

هناك تعليق واحد:

  1. مقال رائع صديقي عبيد و لو أخذت بكل حالة من المتنكر لهم لكان هذا المقال كافيا يكفي أن تضع اسما مكان آخر هذه هي الطريقة التي نعامل بها من يمثلون هذا البلد بشرف تحياتي

    ردحذف