الخميس، 14 فبراير 2013

الجدران اللامرئية : العنصرية ضدّ السّود 5 - هل نحن عنصريون وطائفيون ام لا؟

بقلم هاشم صالح/ كاتب من اصل سوري
الايدولوجيا العربية السائدة تقول لك إنّ العنصرية هي حكر على الغرب وأنّ العرب والمسلمين لا علاقة لهم بها ولا يعرفونها. ونفس الشيء ينطبق على الطائفية وسوى ذلك من الأمراض الاجتماعية. فشعبنا طيب والحمد لله ولا يمكن أن يكون طائفيا أو عنصريا. معاذ الله! هذه آفات خاصة بالآخرين فقط ومستوردة من الخارج. بل زرعها الاستعمار فينا قبل أن يرحل. وكل من يتحدث عن وجود شوفينية عربية ضد الأقوام الأخرى أو طائفية إسلامية ضد الأديان الأخرى يتهم بأنه مازوشيّ مهووس بجلد الذات هذا إن لم يكن عميلا لأعداء الأمة ومتواطئا معهم. كيف يمكن لثقافة ما أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام بهذه العقلية الديماغوجية؟ ومن يصدق هذه الخطابات الفارغة أو الخشبية للسلطات والمعارضات على حدّ سواء؟ وأين هو خطاب الحقيقة في كل ذلك؟ وحده الفكر النقديّ الاحتجاجيّ هو الذي يؤدي إلى حلحلة الأمور وتحريكها لا الفكر الامتثاليّ الراضي عن الذات باستمرار والذي يعلّق كلّ مشاكلنا على شمّاعة الآخرين.

كيلاَ أظلم أحدا أو أتحدّث في الفراغ التجريدي سوف أطبّق الأمور على نفسي وأتساءل: هل كانت في أعماقي بقايا عنصرية ضدّ السود؟
وأجيب مباشرة ودون أيّ تردّد: نعم. والدليل على ذلك هو أنني عندما وصلت إلى فرنسا ونزلت من الطائرة في مطار "لوبورجيه" فوجئت وأكاد أقول صعقت بأن بعض رجال البوليس كانوا سودا. كان هذا أوّل شيء رأيته في فرنسا ولفت انتباهي حقا. وتعجّبت وقلت بيني وبين نفسي: هل في فرنسا سود؟ وهل الفرنسيّ الحضاريّ يمكن أن يكون أسود؟ وكيف يمكن للأسود أن يكون موظفا في الدولة ويتجرّأ على مساءلة الآخرين؟ وهل في رأسه عقل يا ترى؟ وهل يمكن أن يكون مثقفا أو حتى متعلما؟ ومن هو حتى يوقف الأبيض ويتحدّث معه حديث الندّ للندّ؟

هذه أوّل ذكرى لي عندما وصلت بلاد فيكتور هيغو بتاريخ 8. 10. 1976. لكنّ مفاجأتي المذهلة لم تتوقّف عند هذا الحدّ. فعندما وصلت مدينة بيزانسون الجميلة القريبة من الحدود السويسرية لتعلّم اللغة وجدت أنّ المعلمة فتاة شقراء فاتنة فعلا. وكان ذلك من أكبر دواعي الانشراح والسرور لنا نحن مجموعة الطلبة العرب. فكنا نقضي معظم الوقت في الانبهار بحركاتها وتأمّل تضاريسها الشهية دون أن نفهم ماذا تقول. ودون أن ننزعج إطلاقا بسبب عدم الفهم. يكفينا أن نتمتّع بمرآها ونحن جالسون كالبلهاء في الصفّ.
نقول ذلك خاصّة عندما كانت تلبس الميني جيب أو حتى البنطلون الضيّق الذي يكاد ينفجر انفجارا. في كلّ الأحوال كانت حالتنا يرثى لها.. ولكنّ الكارثة التي ما كنّا نتوقعها هو أننا عندما كنا نتمشّى صدفة في شوارع المدينة رأيناها وهي تعانق شابّا أسود! وقد تحدّثت عن ذلك في بعض نصوصي الغرامية "الانفلاشية" التي لم أتجرّأ على نشرها حتى الآن خوفا من الفضيحة. هنا أسقط في أيدينا تماما ورحنا نشتمها ونشتم هذا "الزنجيّ البشع" الذي حظي بما لا يمكن أن نحلم به حتى مجرّد حلم! لم نقم من هول الصدمة إلا بمشقّة، هذا إذا قمنا. كدنا ننتحر وقتها من شدّة الغيظ والحسد والكمد. أجلناها. معليش ، بلاها.. واكتشفت عندئذ أننا أكثر عنصرية من الشعب الفرنسي المتهم بالنزعة الاستعلائية العنصرية الاستعمارية الامبريالية الخ..أنا أتحدّى أيّ فتاة عربية أن تمشي مجرد مشي مع هذا الشاب الأسود في الشارع هذا ناهيك عن أن تقبّله أو أن تظهر أنّه حبيبها..أقول ذلك خاصّة أنّ المسكين لم يكن جميلا حتى داخل السود أنفسهم لأنّ هناك سودا جميلين أيضا وسودا أقلّ جمالا. ولكن الفرنسية إذا أحبّت أحبّت وأعلنت ذلك على رؤوس الأشهاد دون أيّ رادع أو وازع. ينبغي العلم بأنّ ذلك حصل بعد ثورة مايو 1968 التحرّرية الجنسية التي فتحت انغلاقات المجتمع الفرنسي على مصراعيها.

أمّا في عهد بودلير أي في منتصف القرن التاسع عشر فكانت الأمور معاكسة تماما. كانت تشبه ما هو سائد عندنا نحن العرب اليوم. كانت مليئة بالأحكام المسبقة ضدّ السود. ومعلوم أنّ عشيقة بودلير الأساسية كانت زنجية سوداء وتدعى جان دوفال أو حنة دوفال إذا شئتم تعريب الاسم. وقد صعق أمّه وكلّ عائلته البورجوازية بذلك، ورفضت أن تراها أو تستقبلها في البيت. وشعرت بالرعب والتقزّز. وراحوا يخافون من أن يعرف المجتمع أنّ عشيقة ابنهم زنجية لأن ذلك يشوّه سمعة العائلة ويخفض من قيمتها. أمّا هو فكان يتقصد معانقتها وسط الشارع تقصدا لكي يثير اشمئزاز البورجوازية الفرنسية ورعبها. وكان يستمتع بذلك إلى أقصى الحدود ويتلذذ به تلذذا. ومعلوم مدى احتقار بودلير للمقامات والوجاهات وكرهه للامتثالية الاجتماعية. واليها أهدى بعضا من أجمل قصائده ومن بينها قصيدة "البلكون" أو الشرفة الشهيرة.

لكن ليس كل الناس بودلير! ليس كل الناس مجانين أو شعراء ملعونين يعيشون خارج كل القيود الاجتماعية أو حتى ضدها وسابقين لعصرهم.

ما سرّ هذه الأحكام المسبقة ضدّ السود؟ لا أعرف بالضبط. حتما لها تاريخ يعود إلى أقدم العصور. كلّ ما أعرفه هو أنّي لم أر شخصا أسود في حياتي قبل مجيئي إلى فرنسا. هل لمحت أحدهم في جامعة دمشق من بين إخواننا السودانيين؟ ربما. لم أعد أتذكر ..هناك قانون غير مكتوب يقول: الأبيض أبيض والأسود أسود واللون الأبيض لا يمكن إلا أن يكون أفضل من اللون الأسود. أليس النهار أجمل من الليل؟ وإذن فالمسألة طبيعية، أبدية، سرمدية. ولا حيلة لنا في الأمر. ولا حول ولا قوة إلا بالله. (هذا ما يقوله العنصري في قرارة نفسه لأنه لم يعد يتجرأ على البوح به بعد صدور قانون يعاقب على العنصرية والطائفية في فرنسا وكل البلدان المتقدمة).
ولكن أحد الكتاب السود المحترمين في فرنسا يقول هذه العبارة الجميلة:
إذا كان الجلد أسود فإنّ الروح بيضاء.
الروح لا لون لها أيها السادة.
وروح الإنسان الأسود قد تكون طيّبة شفافة حنونة تماما مثل الأبيض أو أكثر.
لم لا ؟ فأرجوكم كفّوا عن محاكمتنا على أساس لون شعرنا أو بشرة وجوهنا.

والواقع أنّ كلامه صحيح. يكفي أن ننظر إلى وجه سيّدة أميركا الأولى الآن، ميشيل أوباما، لكي نتأكد من ذلك. يكفي أن نتمعن في ملامحها وجمالها الأسود ومعانيها الإنسانية وابتسامتها الخجولة نسبيا لكي نشعر بأنها سيدة راقية فعلا وأجمل من لورا بوش الشقراء الباهتة.

ولكن المشكلة هي أن الأحكام العنصرية عنيدة وراسخة ومتجذرة في النفوس. وليس من السهل اقتلاعها تماما كالطائفية أو القبلية أو العشائرية وربما أكثر لأنها بادية للعيان. ولهذا السبب ينبغي على الثقافة أن تتدخل للحد من مخاطرها.
وهنا نلاحظ فرقا شاسعا بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية. فالأولى لم تقم حتى الآن بالنقد الراديكالي للأفكار العنصرية أو الطائفية المتفشية فيها كما حصل في أوروبا بدءا من عصر التنوير وحتى اليوم. لم تقم بعد بالتكنيس أمام بيتها كما يقال عادة. كل ثقافتنا الماضية والحالية مليئة بالأحكام المسبقة من عنصرية وطائفية دون ان يتجرأ احد على مساءلتها بشكل جدّي. بل إنها تبدو بدهية طبيعية منبثة في الهواء وكأنها تحصيل حاصل ولا تثير أي استغراب أو استهجان. ولو طبّق القانون الفرنسي أو الأوروبي الحضاري على ثقافتنا وإعلامنا وفضائياتنا وبرامج تعليمنا لساقوا إلى المحكمة يوميا عشرات المذيعين والصحفيين بل وحتى المثقفين والأساتذة الجامعيين والمفكّرين المعروفين. فنحن نتلفظ أحيانا بالأحكام العنصرية والطائفية حتى دون أن نشعر. والسبب بسيط: هو أن الثقافة العربية الإسلامية لم تتعرض بعد لغربلة نقدية صارمة على عكس الثقافة الأوروبية. لم يتركوا في المسيحية شاردة أو واردة إلا ناقشوها وفكّكوها منذ قرنين وحتى اليوم. من يتجرأ على أن يقوم بذلك بالنسبة للإسلام؟ ظللنا عشرين سنة ونحن لا نتجرأ على نشر كتاب مترجم بعنوان: نقد العقل الإسلامي! معاذ الله، ولو؟ هل يمكن للعقل الإلهي أن ينقد؟ أنت مجنون. ويحك ماذا دهاك؟ أنت تعرّض نفسك للمجزرة، للخطر الأعظم.. هذا في حين أن نقد العقل المسيحي أو الأصولية المسيحية أو التعصب الأعمى المسيحي أصبح تحصيل حاصل في كل أنحاء أوروبا الغربية منذ عشرات السنين. بل إن الناس ملّوا منه. محمد عابد الجابري أنقذ نفسه عندما تحايل على الموضوع وتحدّث عن نقد العقل العربي. ولكننا نعلم أنه لا معنى لنقد العقل العربي إن لم نقم بنقد العقل اللاهوتي الديني الذي يسيطر عليه إلى حدّ كبير..

نفس الشيء فيما يخص العنصرية. هناك عشرات أو مئات الكتب في فرنسا تتحدث عن كيفية ظهور العنصرية الفرنسية ومتى تشكلت كتيار إيديولوجي سياسي في القرن التاسع عشر وما هي أطروحاتها الأساسية وكيف يمكن تفنيدها الخ..لقد فوجئت عندما قويت ظاهرة جان ماري لوبن في فرنسا أواسط الثمانينات من القرن المنصرم. ماذا كان موقف المثقفين الفرنسيين؟ معاكسا تماما لموقف المثقفين السوريين أو العرب عموما من ظاهرة الطائفية التي قويت في نفس الفترة تقريبا بسبب ازدهار التيارات الخمينية والإخوانية.
 لم يقل المثقفون الفرنسيون هذا الخطاب الأبله الغبيّ الذي لا يعني شيئا: شعبنا طيب رائع لا يمكن أن يعرف العنصرية، هذه أشياء مستوردة من الخارج أو مختلقة وهدفها تشويه الأمّة الفرنسية العظيمة! لا، أبدا. قالوا إنّ العنصرية ظاهرة حقيقية تشمل شرائح معينة من السكان ولها أسباب شتّى من فكرية وسياسية واجتماعية ونفسانية الخ. بل وتضرب بجذورها في أعماق التاريخ. وينبغي تشريحها وتحليلها ومواجهة اليمين المتطرف الذي يغذيها مواجهة صارمة لا هوادة فيها. هذا هو موقف معظم المثقفين الفرنسيين ما عدا بالطبع جماعة اليمين المتطرف والفاشي. بعض التقدميين الهشين سقطوا في الحبائل ولكنهم كانوا أقلية قليلة جدا. ثم احتدمت المعركة بين الطرفين على رؤوس الأشهاد حتى توضّحت الإشكالية من كافّة جوانبها وحتى حجّمت العنصرية ضمن حدودها المعقولة واستطاعوا السيطرة عليها. هذا ما رأيته أمام عيني، عشته شخصيا. ورأيت مذهولا ومعجبا كيف يمكن للفكر الإنساني المستنير أن يخوض المعركة مع الفكر الشوفيني الفاشي الذي يضرب على وتر الغرائز الشعبوية الضيقة ويتحول إلى وحش إيديولوجي كاسر يجيش الملايين. وأتذكّر أني في تلك الفترة كنت مع صديقة فرنسية تدعى ناتالي وكان والدها ومحيطها عموما قريبا فعلا من هذا التيار. بل كان أحدهم يرفض مصافحتي ويخرج من البيت قبيل وصولي بقليل. وكانت ناتالي تنزعج منه جدا وحصلت صدامات بينها وبينه إلى درجة أني اضطررت إلى تهدئتها قائلا بأنّ رفضه السلام عليّ لا يزعجني على الإطلاق. المهم ألا يضربني! أو يشتمني مباشرة. وقلت لها: هذا شيء أقوى منه لأنه لا يستطيع أن يفعل غير ذلك. ورحت اشرح لها نفسية الإنسان المتعصّب وكيف أنه مجبر على أن يفعل ما يفعله. فالعربي بالنسبة له شخص همجي يريد شرا بفرنسا منذ أيام شارل مارتل ومعركة بواتييه عام 732 ميلادية! والعرب وبخاصة المغاربة سوف يغزون فرنسا كما يقول لوبن ويهول ويثرثر لكي يكسب المزيد من الأصوات في الانتخابات الخ.. باختصار أصبحتُ مضطرا للدفاع عنه كيلا تحصل أيّ مشكلة في البيت بسببي. أقول ذلك رغم أنّ عداء الرجل كان حضاريا إذا جاز التعبير. بمعنى انه كان يكتفي بالانسحاب من الجلسة قبل وصولي كيلا يضطر إلى مصافحتي. هذا كل ما في الأمر. ولكن الأمور أصبحت حرجة في بعض اللحظات مع هذا التيار إلى درجة أننا عندما كنا في السيارة في مدينة فونتنبلو وصور لوبن تحيط بنا من كل الجهات ورأى والدها أنّ وجهي قد تغيّر فجأة بعد أن أصبحنا في عرين اليمين الحقيقي ربت على كتفي قائلا: لا تخف مسيو هاشم، لا تخف..

ولكن ماذا كان موقف المثقفين العرب في نفس الفترة تجاه انتعاش الحركات الإخوانية والخمينية والأصولية عموما؟ العكس تماما. راحوا يركبون الموجة ويفتخرون بأنهم انضموا إلى الشعب! ليفهم كلامي جيدا هنا: هذا ليس دفاعا عن الأنظمة البوليسية البائسة والمهترئة التي لا همّ لها إلا مراقبة الناس وإحصاء الأنفاس عليهم، بل وسجنهم حتى على مجرّد الخلاف في الرأي.. ولكن لا أحد يستطيع أن يقنعني بأنّ المثقف المؤمن بحركة التطور والتقدم وفلسفة الحداثة والتنوير يمكن أن ينصاع بمثل هذه السهولة لتنظيمات إرهابية قائمة أساسا على فكرة التمييز الطائفي بين المواطنين. هذا شيء لا يركب في عقلي. هل تعتقدون بأنّ بعضهم في فرنسا لم يكن حساسا لأطروحات اليمين المتطرف التي تضرب على وتر العظمة الامبراطورية والأمجاد الفرنسية؟ كان لوبن، وهو خطيب مصقع، يهزّهم هزّا عندما يضرب على هذا الوتر الحساس. ولكنهم قاوموا هذه النزعة العصبية في أعماق نفوسهم ولم يستسلموا لها. وأتذكر أنّ ليونيل جوسبان وهو من أحفاد فولتير وجان جوريس وكلّ الحركة التقدمية الفرنسية نزل له إلى الساحة في مناظرة فكرية وسياسية رائعة. وكان لوبن وقتها في أوجه ويخيف كل قادة فرنسا ويهزمهم على شاشات التلفزيون. هنا يكمن المحك الأساسيّ الذي ينبغي أن يحاكم على أساسه أيّ مثقف: هل هو قادر على مواجهة عصبياته الدفينة إذا حزّت الحزة أم لا؟ كلنا نحمل في أعماقنا بعضا من هذه العصبيات الطائفية والمذهبية. ولكنّ الفرق بين المثقف ورجل الشارع الطيب العادي هو أن المثقف يستطيع أن يشتغل على نفسه، أن يراقب ردود فعله، أن يحلّل الوضع من كلّ جوانبه، باختصار شديد يستطيع ألا يستسلم بسهولة لعصبياته الدفينة. وإلا فإنه يبطل أن يكون مثقفا. في بعض تعبيراتي المتطرفة نسبيا قلت إنّ أوّل صفة للمثقف هي: أنّه شخص منشقّ على ذاته! انه يحاسب نفسه قبل أن يحاسب الآخرين. إنه يراقب نفسه. وهنا دائما أعتمد على نص لرينيه ديكارت يقول فيه ما معناه: قرّرت مراجعة كلّ أفكاري السابقة بل وحتى تدميرها! يقصد الأفكار التي تلقّاها من البيت والطفولة والمدرسة عندما كان صغيرا لا يستطيع أن يميّز بين الصحّ والخطأ، بين الحقّ والباطل. ولكن بعد أن كبر واهتدى إلى طريق الحقيقة دخل في صراع ضار مع نفسه وقرر تدمير كل المسلمات المسبقة والرواسب المترسخة في أعماق أعماقه. وهي عملية صعبة جدا وتؤدي إلى نزيف داخليّ حادّ لأنك عندئذ تصطدم بأعزّ ما لديك، بما علمك إيّاه بيتك أو بيئتك وأنت لا تزال طفلا صغيرا بعمر الورد. من منا لم يسمع بهذه الأحكام الطائفية والعنصرية المسبقة تجاه الآخرين؟ من منّا لم يتشربها، ولم يتشبّع بها؟ نحن وحدنا على حقّ والآخرون كلّ الآخرين على ضلال. نحن وحدنا الفرقة الناجية التي اصطفاها الله! نحن وحدنا شعب الله المختار، أو خير أمّة أخرجت للناس..نعم كنّا خير أمّة أخرجت للناس في فترة من الفترات، لا أنكر ذلك. ولكن هل لا نزال كذلك؟ أليست أميركا هي الآن "أفضل أمة" بعد أن انتخبت أوباما الأسود ووضعته على قمة عرشها؟ ألم تنتصر على نفسها وعصبياتها الدفينة وعنصريتها التي تربت عليها أجيالا وأجيالا؟ ألم تعطنا درسا لا ينسى؟ ومعلوم أنّ العلم في الصغر كالنقش في الحجر يصعب محوه أو التخلّص منه لاحقا. ولكنّ رينيه ديكارت خاض المعركة مع هذا العلم الراسخ أو الرواسب المتكدسة في أعماق ذاته وخرج منها منتصرا. وأصلا لولا ذلك لما أصبح رينيه ديكارت ولما نجح في تحقيق الانقلاب الكبير على ثقافة عصره المتحنطة المتكلسة ولما قلب الفلسفة السكولائية ودشّن الفلسفة الحديثة. ولهذا السبب قال عنه هيغل عبارته الجميلة: إنه البطل المقدام للفكر.

إذ أقول هذا لا يعني أنّي أتغاضى عن مساوئ السياسة الأميركية في منطقتنا وبالنسبة لقضيتنا ولكني أنظر إلى الصورة من كلّ الجوانب لا من جانب واحد فقط. انسوا مشكلتنا ولو للحظة..

وأخيرا يخيّل إليّ أننا بحاجة اليوم إلى شخصيات من نوعية ديكارت وسبينوزا وفولتير وسواهم من أجل تفكيك وتعرية كلّ الأفكار العنصرية والطائفية المتجذرة في أعماق ثقافتنا ونفوسنا. لماذا حاول المتعصبون اليهود قتل سبينوزا؟ لأنّه خرج على الطائفة قبل أن يخرج على كل الطوائف. لأنه حاول تعرية الأسس العميقة للدين اليهودي الذي تربّى عليه وتشرّبه طيلة مرحلة الطفولة والشباب الأوّل. وبالتالي فقد أعلن العصيان على ذاته وخاض المعركة مع نفسه قبل أن يخوضها مع الآخرين. هنا تكمن عظمة سبينوزا. ولو انه استسلم لعصبيته الطائفية واكتفى بإدانة طائفية الأغلبية المسيحية المحيطة به لما بقي منه شيء يذكر. ولكن المعركة مع الذات هي من أشقّ المعارك وأقساها على النفس. لهذا السبب يوجد كتّاب عديدون في كلّ عصر أو جيل. بل ويوجد بحّاثة أكاديميون وأساتذة جامعات عديدون ومحترمون. ولكن لا يوجد إلا عدد نادر من الفلاسفة الكبار الذين غيّروا مجرى التاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق