بقلم :
غيوم هرفيو Guillaume Hervieux
لقد كانت العبوديّة واحدة من الركائز الاقتصادية في المجتمعات اليهودية والمسيحية
والإسلامية. هذا ما تقوله بالضبط النصوص المقدّسة عن هذا الموضوع، بعيدا كلّ البعد
عمّا يمكن للمرء أن يتصوّره، فلنعد إلى المنابع.
"كي نكافح ضدّ الأحكام المسبقة التي تُعيق الحوار بين الشعوب، يبدو لي ضروريّا أن ندرس مسألة العبودية، وعلاقتها بالنصوص المقدّسة، طالما ظلّت هذه المسألة من المواضيع الشِّقاقيّة".
في النسخ المكتوبة باللغات الأصلية نجد أكثر من ثمانمائة إحالة إلى العبودية في العهد القديم، كما نجد أكثر من مائتين في العهد الجديد، وتسعا وعشرين في القرآن. فما الذي تقوله هذه النصوص؟ هل يطالب مؤلّفوها بإلغاء العبودية، أو أنهم على عكس ذلك يبرّرونها، خاصّة إذا ما تعلّقت بالسّود؟
هذا الموضوع يكاد يكون "تابو"، ويسهم الجهلُ بالتاريخ في صراع الذاكرات بين الشعوب، ففي القارة الإفريقية نرى الدّعاة المسلمين والمسيحيين الإنجيليين، يتواجهون من أجل أن يكسبوا إلى صفوفهم، مؤمنين جددا. ويكدّ الطرفان، قدر ما يستطيعان، في سبيل إقناع الأفارقة بأنّهم كانوا ضحايا الطرف المقابل، وأنّ الدّين الذي يقدّمه هو، سيكون خلاصا لهم من العبودية.
هذا الموضوع يكاد يكون "تابو"، ويسهم الجهلُ بالتاريخ في صراع الذاكرات
بين الشعوب، ففي القارة الإفريقية نرى الدّعاة المسلمين والمسيحيين الإنجيليين، يتواجهون
من أجل أن يكسبوا إلى صفوفهم، مؤمنين جددا. ويكدّ الطرفان، قدر ما يستطيعان، في سبيل
إقناع الأفارقة بأنّهم كانوا ضحايا الطرف المقابل، وأنّ الدّين الذي يقدّمه هو، سيكون
خلاصا لهم من العبودية.
أمّا الكنيسة الكاثوليكيةـ والفضل يعود جزئيّا إلى مؤرّخي التجارة الثلاثية العابرة
للأطلنطيّ ـ فقد انتهت إلى الاعتراف بنصيبها من المسؤولية [في استعباد السود]. إذ صرّح
البابا جون بول الثاني لأوّل مرّة سنة 1991 في جزيرة Gorée [بالسينيغال: نقطة "شحن"
العبيد السود إلى العالم الجديد ـ المترجم] "بأنّه استغفر عن الخطايا التي اقترفتها
أوروبا المسيحية في حقّ إفريقيا" وفي المقابل، فإنّ إعادة نظر مماثلة تظلّ أمرا
أكثر حساسية في العالم الإسلاميّ.
ففي العالم الإسلاميّ تسود رواية ميثولوجيّة عن حضارة إسلامية حوربت فيها العبودية أو كانت فيها ألطف ممّا كانت عليه في حضارات أخرى. وتوجد [حول موضوع العبودية في العالم الإسلامي] مادّة وثائقية بلا حصر، غير أنها لم تُستغلَّ بعد. ولكنّ الصمت يأتي أيضا من البلدان الإفريقية، فلأسبابٍ تتّصل بحروب التحرّر الوطنيّ، وأسبابٍ أخرى تتّصل بالعلاقات مع العالم الإسلاميّ، فهي تفضّل ألاّ توقظ تاريخا مثيرا للآلام.
ولقد أظهرت الحوارات الحديثة عُسْر الاعتراف بوجود تجارات ـ في صيغة الجمع ـ للعبيد السّود، فكيف يتسنّى، في مثل هذا السياق، تفسير النصوص التوراتية والقرآنية دون السقوط في بروباغوندا مانويّة أو رومنطيقية؟
لقد اختُبِرَ المنهج آنفا: فيكفي أن نميّز تمييزا جليّا بين النصوص وترجماتها المختلفة،
وتأويلاتها واستعمالاتها، كي يستبين لنا الحدّ بين النصّ المكتوب والفعل المنجَز من
قِبَلِ الإنسان.
لقد قبل شعب إسرائيل وجود العبودية لكنه لطّف تطبيقها بالمقارنة مع الشعوب المحيطة
به. وهناك حدثان قد طبعا هذا التصوّر: تحريرُ الشعب العبريّ من القبضة المصرية، ثمّ
من الأسر البابليّ. هذه الذكرى وتلك حملتا العبرانيين على ألاّ يعامل بعضهم البعض ولا
الأجانب أيضا، باعتبارهم عبيدا مدى الحياة. وعندما كان الشعب ينسى ذلك، كان أنبياء،
مثل عاموس، يذكّرون الأغنياء أنّه لا اكتمال لشيء ما لم يكن عطيّة من الربّ، وأنّ ما
يسبّبونه من آلام للأطفال إنّما يسبّبونه إلى الربّ. وقد كانت الجماعة اليهودية المسمّاة
"الأسانيين"esséniens les [مجموعة يهودية قديمة من جماعات قمران ظهرت قبل المسيحية
بحوالي قرن ونصف تقريبا، وبقيت إلى ما قبل دمار الهيكل حوالي سنة 70 م ـ المترجم] أولى
المجموعات التي أدانت العبودية وتخلّت عن ممارستها، ويستعرض تلمود بابل حجاجا قانونيا
يحثّ على إنفاق المال العموميّ لاشتراء الأسرى. وفيما بعد تمّ تطوير هذا الحِجاج من
قبل المسيحيين فالمسلمين، فصارت هذه الممارسة (اشتراء الأسرى) تعتمد نفس هذا المنطق:
لا ينبغي التخلّي عمّن يشاركنا الدّين بين أيدي شعبٍ من الكفّار. وهذا المبدأ موجودٌ
في القرآن، وفي الفقه الإسلامي: إنه يندرج ضمن الصّدقة. وفي المقابل فإنّنا لا نجد
ذلك مكتوبا في العهد الجديد، لكنّه لقي كلّ تشجيع من أمبرواز دي ميلان Ambroise de Milan[أحد مؤسّسي الكنيسة اللاتينية، وهو كاتب وقدّيس عاش بين
340 و392 م ـ المترجم]، ثم تلقّفه الإمبراطور جوستينيان، ثمّ التريناتيون TRINITAIRESوالمرسيديونMercédaires ، وهما جماعتان مسيحيتان كرّستا كل جهودهما من أجل اشتراء الأسرى من المسلمين.
هل تمّ تبرير العبودية باسم الدين؟ لقد تمّ في المسيحية، كما هو الشأن في الإسلام،
تحوير المنطق العتيق antique الذي كان يؤسّس الفروق بين الإنسان
الحرّ والعبد. فلم تعُد الحرية شيئا متّصلا بالثراء، ولا بالنّبل أو اللون أو الأصل
أو المواطنة، بل بالانخراط في عقيدة معيّنة. وإذا صار الأخ في الدين محميّا، نظريّا،
فإنّ الكافر قد غدا "الهمجيّ" الجديد، أي ذاك الذي يمكن أن يقع تحت النّير.
وهذا لا يخلو من تناقضٍ مع النّصوص التوراتية والقرآنية التي تضمن عالمية المبادئ الايتيقية
الكبرى: إذ أنّ إنسانا، على صورة الله، هو الأصلُ المشتركُ لكلّ الكائنات الإنسانية.
ولم يحدث إجماعٌ بين فقهاء المسلمين لتحديد ما إذا كان المسيحيون واليهود كفّارا، لكنّ
المسألة حُسِمت في إطار الفقه الإسلاميّ الّذي، وبدافع من حماية الإسلام أرضا ورسالة،
أقحم نظريّة "الجهاد" لتبرير استعباد أيّ عدوّ للإسلام، ولا تجد نظرية
"الحرب المقدّسة" أيّ سند في العهد الجديد، لأنّ مملكة يسوع ليست من هذا
العالم. فلقد رفض يسوع أيّ عنف ولو كان دفاعا عن حياته، ولو كان في سبيل التبشير بالإنجيل.
ولكنّ هذه النظرية (أي الحرب المقدّسة) أقامها اللاهوتيون المسيحيون بغرض الردّ على
هجمات البرابرة عندما تبنّت الإمبراطورية الرومانية المسيحية دينا للدولة: وهذه (النظرية)
تسمح بتبرير استرقاق الكفّار. ولقد أقحم البابا غريغوار التاسع في القانون الكنسيّ
(Le droit canon) عبر الأمر"rex pacix" في 1234 أربع حالات شرعية
للاسترقاق.
القرآن يحثّ المالك على احترام عبده
ترجمة التوراة والقرآن ليست عملا سليم العواقب، فالترجمة في حدّ ذاتها تأويل، وبالتالي
فهي تأثير [في النصّ]، والشيطان يسكن في التفاصيل، وهكذا ظهرت نُسخٌ للعهد الجديد في
لغات محلّية تحت تأثير ذوي النزعة الانسانية Les humanistes وأخرى تحت تأثير الإصلاحيين، وبفضل اختراع المطبعة. فنجد مثلا، أنّ اللفظ الإغريقيّ
"doulous" يمكن ترجمته إلى اللغة الفرنسية إمّا بلفظ "عبد"
أو بلفظ "خادم"، وهناك نسخٌ قد اختفت منها عبارة "عبد" أو تكاد،
لفائدة عبارة "خادم"، كما نجد في نسخة "لوثر" أو نسخة الملك جايمس،
أو نسخة لويس سيجوند، وهذا رغم أنّ vulgate [وهذا اسم الترجمة اللاتينية
الرسمية للإنجيل التي تعتمدها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ـ المترجم ] قد ترجم عبارة
Doulus في أغلب الحالات بعبارة Servus أي "العبد". ففي النصوص الإغريقية لذلك العهد كانت عبارة "دولوس"
تعني دون تردّد معنى العبد. ومن الواضح إذن أنّ الإيديولوجية المسيحية، المتغلغلة في
بعض المترجمين، هي التي قادتهم إلى التوقّف عن اعتبار الـ"دولوس" doulousعبدا ولكن باعتباره "خادما". فهل كانت تلك
النوايا عفوية في زمن اشتداد العبودية؟.
أمّا القرآن فقد أملاه (............) الملاك جبريل على محمّد: فلا تجوز ترجمته لأنّ العربية هي لغة الله، وانطلاقا من ذلك فإنّ النفاذ إلى فهم النصوص قد تأجّل عند كلّ الشعوب غير العربية، وفي الترجمات الفرنسية للقرآن لا يوجد إجماع عند المترجمين بخصوص ترجمة الآيات التسع والعشرين المتعلقة بالعبودية: هل يتعلق الأمر بخادم، أو بأسير، أو بعبْدٍ؟ وتبعا للاختيار (من قبل المترجم) يشهد معنى الآية تحويرا عميقا.
وأخيرا، فإنّ "بولس" في رسالته إلى كنيسة كورنثس يلحّ على المفهوم التالي: مادام الإنسان مهما يكن وضعه عبدا للخطيئة، فهو غير حرّ، بل إنّه عبد، فالحرية الاجتماعية والسياسية ثانوية قياسا إلى التملّك الذي تمارسه الرغبات والمخاوف على الإنسان، خاصّة منها الخوف من الموت، أما نهاية العبودية فإنّ "بولس" لا ينزّلها ضمن المطالبة بالإلغاء الفوريّ لها، بل ضمن المطالبة بتأسيس علاقات إنسانية جديدة، مؤسّسةٍ على الأخوّة، في الله، وعلى خدمة الآخر. والقرآن لا يشترط هو الآخر الإلغاء الفوريّ للرقّ، بل إنّه يقوم بتحضيض السيّد المؤمن على احترام العبد، خاصّة إذا كان العبد مؤمنا، ولا يحرّم القرآن امتلاك نساء تمّ أسرهنّ أو اشتراؤهن، لكنه يطالب المالك بأن يحصر اللذّة في إطار الزواج وعدم إجبار الأمَة إذا اختارت أن تبقى عفيفة. وفي حالات معيّنة يفرض القرآن على السيّد أن يحرّر عبدا: إمّا تكفيرا عن ذنبٍ اقترفه السيّد، أو لاشتراء أسرى، أو كي يتمكّن عبد صالح من الزواج، بل إنّ العبد قد صار ضمن اللذين لهم الحقّ ـجزئيا ـ في الإرث. وأحاديث محمّد أشدّ رفقا في أحيان كثيرة لكنّ الفقه لا يجسّد مثل هذا التطوّر.
يمكن أن تكون صورة العبد مطبوعة بخاتم النُّبلِ، ولنا أن نقرنها بشهادات عن شهداء، وقدّيسين نشروا المسيحية في بلاد ما، بل حتى بعض من تقلّدوا منصب البابوية، وكانوا جميعهم قبل ذلك عبيدا. وعديدة هي أنظمة القساوسة التي كانت تمنح التقدير نفسه للإنسان حرّا كان أو عبدا، وكان هناك نبلاء رومانيون أعتقوا عبيدهم، وبالآلاف أحيانا. والقانونان التيودوسي théodosien والجوستيني justinien قد استلْهما من النصوص المسيحية ما سمح بتحسين وضع العبيد. وفي القرن السادس عشر رأينا ملوكا وبابواتٍ كانوا قلبا وقالبا ضدّ استعباد الهنود الحمر. وهذا الراهب الدومينيكانيّ مونتسنينوس Montesninos يخطب في المستوطنين الأسبان في عظة غدت شهيرة" كيف تجرؤون على أن تضعوهم في هذا الذلّ المهين؟ أليسوا بشرا؟ ألستم مطالَبين بأن تحبّوهم كما تحبّون أنفسكم؟"
وعلى العكس من ذلك تماما يمكن أن تُوظّف النصوص الدينية في تسويغ الأسوإ ، فقد
كان الدّور الأوّل لأسطورة كنعان أن تخدم مصالح بني إسرائيل ضدّ العدوّ الذي يترصّد
أرضهم وأخلاقياتهم، وبتطوّر هذه التجارة[أي تجارة العبيد] عابرة للصحراء ثمّ للأطلنطيّ،
تمّ استعادة الأسطورة شيئا فشيئا كي تكون في خدمة منطق الأمير ومنطق التاجر، وكي تريح
الضمير الأخلاقيّ عند كليهما. فكان الإيهام بأنّ أبا كنعان، "حام"، الأسود
هو المُسخّرُ للعبوديّة. على أنّه من غير الممكن أن نعتبر تأويلا، يهوديا كان أو مسيحيا
أو مسلما، كافيا لوحده كي يكون أصلا في تبرير استرقاق السود.
كم جرعة من الجرأة نحتاج كي يتجاوزة العبيد البحث في ركام الدين عن حرية الإنسان .فما دام الحرف الواحد أقدس من الفرد الذي ينتجه ويبدعه فلماذا نبحث في النصوص ذات المصدر الماورائي عن حريتنا فاليصحو الضمير الآدمي من الخرافة
ردحذف