السبت، 4 مايو 2013

الجدران اللامرئية : العنصرية ضد السود (19) العنصريّة..

بقلم كتاب آخرون 

تقديم المترجم : مجتمعات في الذاكرة، مجتمعاتنا تقاوم النسيان
إن جاز الاستئناس بعنوان بحث عالم الاجتماع التونسيّ "محمد الهادي الجويلي": مجتمعات للذاكرة مجتمعات للنسيان: دراسة مونوغرافية لأقليّة سوداء بالجنوب التونسيّ (دار سيراس تونس. 1994) ومعارضته، قلنا إنّ هذه المجتمعات، وما مورس ضدّها من ميز قاهر عبر التاريخ، مازالت في الذاكرة وإقصاؤها لم يُنْسَ بل ما زال قائما نسبيّا.


لسنا في حاجة إلى حجج للبرهنة على أنّ في وعينا الفردي والجمعي (وكذا حال لا وعينا) بؤرا عنصرية، وأنّ في بنائنا الاجتماعي جدرانا مرئيّة شفّافة نطلّ منها على وشم تاريخ عنصري يلوح على ظاهر الذاكرة لم يُنْسَ. نحتاج في تقديرنا إلى وقت أطول لردم الفجوة مع أخينا "الأسود" نتيجة لوقائع "سوداء" اضطُهدَ خلالها أهلُنا السّود، هذا فضلا عن الاعتذار على فظاعات كثيرة.
نعم نحن، الآن وهنا، عنصريون بنسب متفاوتة عن قصد وعن غير قصد، ولكنّنا عنصريون نستبطن ثقافة الازدراء والتفوّق وندينها علنا ونكافح ضدّها متى مارسها الآخر الأبيض الأوروبيّ مثلا ضدّ أبناء جلدتنا (من السّمر والسّود هذه المرّة).
نعم نحن ضحايا إرث جاثم على ثقافتنا تشهد عليه كتب التاريخ والأدب الحافلة بتاريخ "أسود" سلّم بدونيّة "أهل السّودان" "الزنج" "الأغربة" وأقرّ استئهالَهُمْ الطبيعيّ لهيمنة "البيضان". ونجد في لغتنا معجما يخذلنا ويؤشّر على هذا الميز السلبيّ. (الأسود: أخبث الحيات وأعظمها وأنكاها. أسود الكبد : العدو- أسود القلب : الحاقد – المسودّة من الأيّام : الثقيلة المحزنة). وتطفو في محادثاتنا اليومية كذلك عبارات ترسّخ ملازمة الأسود والسّواد لما هو سلبيّ [الأيادي السّوداء- الملفّ الأسود -قدّم مسودّة من عمله- يتكلّم فرنسية الزنوج (أي فرنسية رديئة) ويعمل مثل زنجيّ (أي يقوم بأعمال شاقة) وهذا عمل زنوج (أي عمل شاقّ ودونيّ)…] وفي لهجتنا المحلية ألفاظ وعبارات وأمثال لا تخرج عن سياق تهجين الأسود. أذكر هنا أنّ في قريتي اليوم ما زلنا نتحدّث عن الأسود بأنّه من "العبيد" (في حين أنّ الأبيض نطلق عليه تسمية "الحرّ") وأنّه "خادم أو خادمه" و"وصيف" و"زُمْبَاك". ولتمييزه في التسمية نضيف إلى أسماء الأعلام الخاصّة بالأطفال والكهول والشيوخ على حدّ السّواء عبارة "بَاكْ" للمذكّر (بَاكْ سعيد) وعبارة "أُمِّكْ" للمؤنّث (أُمِّكْ مسعودة). كما يكاد يختصّ هؤلاء بأسماء وإن دلّت على التبرّك والحظّ من قبيل "مبروك (ة)، مبارك (ة)، سعيد (ة)، مسعود (ة). سعد، شوشان (ة)" "فإنّها تدخل تحت طائلة التمييز الايجابي الذي جعلنا عندما كنّا أطفالا نسعد عند رؤية مواطن من اللّون الأسود يوم الامتحان تبرّكا به.
ومن الأمثلة كذلك على ما في حياتنا اليومية من وجوه دالّة على إرث عنصريّ، أنّ كلّ رأي فاسد نطلق عليه عبارة "رأي عبيد" (أي رَأْيٌ صادرٌ عن زنجيّ)، ومازلنا اليوم في لغتنا نتحدّث عن "فلفل بَرْ العبيد" (أي نوع من الفلفل الأحمر ينسب إلى بلاد السّودان)، وما زلنا نشهد ردود فعل دالّة على مواقف الازدراء هذه عند ملاقاة فريق رياضي من افريقيا حيث تُشَنَّفُ الأسماعُ بأقبح النعوت لهؤلاء اللاّعبين القادمين من "أدغال افريقيا"، إذا استعملنا لغة صحافتنا الرياضيّة. وما زلنا نعاني من رفض الزيجة "المختلطة" وإن بدت مقبولة باحتشام أحيانا (عالج مسلسل رمضاني في تونس هذه السنة هذه الظاهرة). وفي الضفة الأخرى شواهد أكثر دلالة على مواقف المركزية الغربيّة من الأسود وهي التي لها "أياد بيضاء" في تجارة العبيد وقهرهم داخل أراضيهم وخارجها. وبالأمس القريب فقط حَلَّت صحيفة "نيويورك بوست" صَفَحاتِها بكاريكاتور للرئيس "أوباما" صوّره صاحبُه على أنّه قرد (والقرد رمز للعنصريّة تجاه السّود يذكّرنا كذلك بصيحات القرد التي يطلقها جمهور الملاعب الأوروبية لاحتقار اللاّعب الأسود). نعم يجري هذا في بلد نَدَبَ نفسَه لنشر "رسالة" حقوق الإنسان والديموقراطية في بلدان العالم كلّها. تبدو المسألة بعد هذا التشخيص العاديّ مندرجة في صميم مشكليّة علاقة الأنا بالآخر الذي نُصِرُّ - نظرا إلى التأثير المحدود لدعوات تأصيل ثقافة الاختلاف والتنوّع والتعدّد والمساواة، والضمور في فعل مبادئ حقوق الإنسان فينا- على أن نعتبره مجرّد غريب أجنبي بعيد. ويبدو هنا أنّ رسوخ ثقافة الهيمنة والاستعلاء (ونحتاج أيضا إلى الالتفات إلى المواقف العنصريّة المضادّة التي تكون ردّ فعل من الأسود الذي يستبطن الدونيّة أو الشعور بالحقد أو يكرّس ثقافة المعازل ورفض الآخر بصيغ مختلفة) دونه جهدٌ كبير لاجتثاثه من وجداننا وسلوكنا، ولعلّ هذا ناجم عن كون التحوّلات الاجتماعيّة وزحزحة المسلّمات من الأبنية الذهنية مسارا طويلا شاقّا. لكن ثمّة في آخر النفق بصيص من الأمل. ونترجم فيما يلي مقتطفات من مقال لـ "ألبير ممّي" عن العنصريّة، منشور في الموسوعة الكونيّة (Encyclopaedia Universalis-Paris 1985 )
وألبيرممّي كاتب تونسي يهودي الأصل من أسرة ناطقة بالعربيّة ومن مواليد 1920. عاش لفترة في تونس حيث درس ثمّ استقرّ بفرنسا. دارت أغلب مصنّفاته الرّوائية والفكرية على ما يعتبره تمزّقا عانى منه باعتباره ساكنًا أصليًّا يقطن في بلد مستعمر ويهوديًّا في مناخ إسلامي وإفريقيًّا في فضاء تهيمن عليه أوروبا.
من مؤلّفاته : (1953) : Statut de Sel
(1966-1964) Portrait d’un juif
(1974) Juifs et Arabes
(1982) Le Racisme
*****

ليس من اليسير وضع تعريف للعنصريّة يحظى بالإجماع. ويبدو هذا على الأقلّ مثيرا للدهشة بالنسبة إلى موضوع تمّ تناوله أكثر من مرّة وبكيفيّات شتّى. نحن نفهم مأتى هذه الصّعوبة عندما نتبيّن أنّ الأساس الذي انبنت عليه العنصريّة ونقصد مفهوم "العرق الأصيل" [النقيّ] (Race pure) الذي يقع إجراؤه على البشر لم يتمّ تعريفه جيّدا ومن المستحيل تقريبا أن نصطنع له موضوعا محدّدا تحديدا دقيقا. ومن جهة أخرى فإنّ العنصريّة ليست نظريّة علمية وإنّما هي مجموعة آراء قليلة التماسك فضلا عن ذلك. وزد على هذا، فإنّ هذه الآراء- وهي بعيدة عن أن تصدر عن معاينات موضوعيّة بمنأى عمّن يعبّر عنها- تمثّل التبرير لمواقف وأفعال هي بدورها يبرّرها الخوف من الآخر والرّغبة في الاعتداء عليه بغية طمأنة النفس وإثبات الذّات بواسطة إلحاق الأذى بهذا الآخر. وأخيرا تبدو العنصرية بمثابة حالة مخصوصة من سلوك أعمّ، ونقصد به استخدام الفوارق البيولوجيّة وهي فوارق قد تكون نفسيّة أو ثقافيّة حقيقيّة أو وهميّة. وحينئذ توجد وظيفة للعنصريّة. والحاصل ممّا سبق كلّه أنّ العنصريّة هي إضفاء قيمة معمّمة ونهائيّة للفوارق البيولوجيّة الحقيقيّة أو الوهميّة لفائدة المتَّهِم وعلى حساب ضحيّته لتبرير عدوان مّا. ويتولّى هذا النّص تحليل هذا التعريف والبرهنة عليه.
****

استُخِدمَت كلمة عرق (Race) بصفة متأخّرة نسبيّا في اللّغة الفرنسيّة. ويعود هذا إلى القرن الخامس عشر وهي كلمة من أصول لاتينيّة (Ratio) وتعني من بين ما تعنيه "التّسلسل الزّمني". ومازال هذا المعنى المنطقي قائما في المفهوم البيولوجي الذي فرض نفسه إثر ذلك. فالعرق حينئذ يُفْهَم على أنّه مجموعة من السّمات [الخصائص] البيولوجيّة والنفسيّة التي تشدّ الأصول والفروع إلى السّلالة نفسها. ويرجع هذا المصطلح إلى حقل تربية الماشية وهو إلى ذلك لم يقع إجراؤه على الإنسان دون غيره إلاّ بداية من القرن السّابع عشر. أمّا العنصريّة باعتبارها عقيدة فظهورها كان متأخّرا أكثر. ففي القرن السّادس عشر أقام الأسبان صلةً بين "الرسالة التمدينيّة" لأسبانيا في أمريكيا وبين "الدونيّة الطبيعيّة" للهنود بل "انحرافهم". فلقد استقرّ في ظنّهم أنّهم مؤهّلون لاستخلاص مشروعية الغزو والاستيطان الأوروبِيَيْنِ. وعلى هذا النحو فإنّ الجهد المبذول بصفة منهجيّة لتبرير العدوان والهيمنة اللـّذين تمارسهما مجموعة تعتبر نفسها أعلى بيولوجيًّا ضدّ مجموعة أدنى بيولوجيًّا هو جهد يعود إلى بدايات الاستعمار. وسنتبيّن كذلك أنّ السّاكن الأصليّ لا يُعَامَل فحسب على أنّه من فئة أدنى - وهذا ليس مسؤولا عنه- بل باعتباره "منحرفا" وتبعا لذلك ومن منظور أخلاقيّ فهو يستأهل التقريع والعقوبة أو على الأقلّ التأديب، وهذا ما يضفي المشروعيّة على "رسالة" الأبيض.

ويرتبط استعباد السّود الذي بلغ أوجه في القرن السّابع عشر بعلاقة لا غبار عليها مع ظهور أُولَى الحجج العنصرية البيولوجيّة والتي يسخر منها مونتسكيو فلسفيّا. وممّا لا شكّ فيه أنّنا نجد عند هذا المؤلّف أو ذاك من القدامى تأكيدات عنصرية بل حتّى معطيات أوّلية تُستعمل حجّة لفائدة العنصرية. فأرسطو الذي كان منتصرا لنظام اجتماعي يستند على العبودية حاول تبرير الدونيّة الطبيعيّة للبرابرة وهو ما يجعلهم منذورين ليكونوا عبيدا للإغريق. ولكنّ الأمر يتعلّق هنا بملاحظات معزولة وغالبا ما كذّبها واقع الممارسة. إلاّ أنّ الوسم البيولوجي كُلَّمَا كان حاضرًا بَدَا دوره ثانويا جدّا.

ومن المؤكّد أنّ معاداة السّاميّة قديمة ولكن المسألة تدور أساسا على قضيّة دينيّة أو وطنيّة. فمعاداة السّامية بما هي نظريّة اجتماعيّة نشأت بصفة متأخّرة جدّا مع التحرّر الاجتماعي النسبيّ لليهود وتبعا لذلك مع المنافسة الاقتصاديّة.

وتعيّن علينا أن ننتظر الحقبة الحديثة ليظهر تفسير شبه منهجيّ وعلمي للعنصريين المعاصرين. ومن المرجّح أنّ العلم هو الذي يبدو وحده جديرا بتوفير ضمان لا يرقى إليه الشكّ بخصوص جدّية أطروحة مّا. (…)

وكانت المقارنة بين مختلف المذاهب الاجتماعيّة وراء ظهور ثابتة - بقطع النظر عن الخصوصيات والملابسات المحليّة - مفادها أنّه باسم التفوّق البيولوجي تسعى مجموعة بشريّة مّا إلى فرض ذاتها ضدّ الآخرين ويَقُرُّ في اعتقادها أنّها مُخَوَّلَةٌ – لهذا السبب - لاستعمال الوسائل المتاحة كلّها بما فيها العنف وجريمة القتل.
الآراء والمواقف والمعاملات :

مفترضات العنصرية
لإثبات وجوه التفوّق العرقية ينبغي افتراض وجود أعراق بشرية. فالعنصري يومئ إلى– أو يصرّح بوضوح بـ - وجود أعراق أصيلة نقيّة هي في مرتبة أعلى من غيرها، وأنّ هذا التفوّق يخوّل أخيرا الهيمنة السّياسية والتاريخيّة. إلاّ أنّ هذه المسائل الثلاث تثير اعتراضات ذات شأن، فمن جهة نجد أنّ المجموعات البشريـّة الحالية أغلبها هي نتاج لعمليات تهجين على نحو يجعل من المستحيل عمليّا استعمال عبارة "أعراق أصيلة" [نقيّة]. ومن العسير جدّا تصنيف المجموعات البشريّة بالتعويل على معايير بيولوجيّة هي دائما غير دقيقة. وختاما فإنّ التطوّر الثابت للجنس البشري و ما تتّسم به المجموعات البشريّة دوما من طابع ظرفيّ [غير دائم] يجعلان من باب الوهم كلّ تعريف للعرق يتأسّس على معطيات إثنيّة قارّة.

وباختصار فإنّ إجراء مفهوم الأصالة العرقيّة [والنّقاء] على المجموعات البشريّة هو إجراء غير مناسب. فهذا المفهوم يعود إلى قطاع تربية الماشية حيث يتمّ كذلك الحصول على العرق الذي نزعم أنّه نقيّ أصيل من خلال عمليات تهجين خاضعة للمراقبة. وعندما نسحب هذا المفهوم على الإنسان، فإنّنا نخلط عادة بين المجموعة البيولوجيّة والمجموعة اللّغوية أو الوطنيّة، يجري هذا على مفهوم الإنسان الآري الذي وظّفه غوبينو (Gobineau/1882-1816) وتلامذته النازيون. وأخيرا، ليس من المستحيل القول إنّ هذا المفهوم يحيل ضمنيّا على استيهام الأصالة والنقاء.

وعلى أيّة حال، فبافتراض أنّ مثل هذا النقاء موجود، فلماذا يتمّ الرّبط بين النقاء البيولوجي والتفوّق وعلى أيّ شئ يقوم هذا التفوّق؟. وإذا ذهبنا على سبيل الفرضيّة كذلك إلى وجود ضروب من التفوّق البيولوجيّ في صلة بالسّمات الإثنيّة فإنّه لم تتمّ البتّة البرهنة على أنّها تتحكّم في وجوه التفوّق النفسي أو الثقافي التي تلحّ عليها العنصريّة. وفضلا عن هذا، وإذا سلّمنا أنّ مثل هذا التفوّق بوجوهه موجود فعليّا بصفة ظرفيّة أو نهائيّة دائمة ذات صلة - أو غير ذات صلة - بمثل هذا النقاء المُحْتَمَل فلماذا نجده يبرّر الهيمنة السياسيّة؟

من البيّن أنّنا لسنا إزاء نتيجة علميّة ثابتة وإنّما نحن إزاء اختيار سياسيّ أو قرار أو إرادة لفرض مثل هذه الهيمنة التي تستند بمكر على حجج بيولوجيّة أو ثقافيّة.

وأخيرا ينكشف في العنصرية خلط أخير لا يمكن تجاوزه ويتمثّل في عدم التناسب في استخدام مفاهيم من قبيل مجموعات إثنيّة ومجموعات ثقافيّة وشعوب وأمم، وهو أمر يجعل في كلّ الأحوال سلوكا سياسيا قد يعتمد على خاصيّات إثنيّة أو عرقية أمرا غير مشروع.

وختاما فإنّ العنصرية ليست نظرية علميّة وإنّما هي نظرية كاذبة، هي مجموعة آراء عارية عن كلّ صلة منطقيّة واضحة بالمعطيات البيولوجيّة الدقيقة نوعا مّا.

المبرّرات النفسية والاجتماعيّة:
مهما كان اتّساع مدى العنصريّة فإنّ أغلب السّلوكات التي تترتّب عنها من خلال عدد كبير من الجماعات الاجتماعيّة ومن خلال صلابة الآراء والمواقف التي توجدها قد تقيم الدّليل على أنّها تعكس تبريرات مماثلة سواء أكانت فردية أم جماعية بما أنّه توجد عنصريّة فردية وجماعيّة في آن واحد. فالاعتداء على الآخر بالأفعال أو الأقوال يحتاج إلى تبرير. ويبدو أنّه من الممكن القيام بذلك لسببين إثنين : الخوف والمصلحة.

يعود الخوف بنا إلى أزمنة غابرة، إلى الحقبة التي كان يتعيّن فيها على المرء أن يعيش في جوّ من الحذر وإلاّ أمكن لآخر أقوى أو أكثر حيلة أن يختطف الفريسة أو المرأة المرغوب فيها، وتسنّى له أن يحكم عليك بالجوع أو الإهانة أو حتّى القتل. إنّ الآخر هو المجهول الذي نتوقّع أن يصدر عنه كلّ شيء وخصوصا الأسوأ.

وعندها نبلغ بوضوح مرتبة السّلوك العنصري إذ يتعيّن الدفاع عن النفس من خطر هذا الآخر الغريب الأجنبي بل أكثر من ذلك توقّي هجماته بالهجوم عليه قبل أن يبادر هو بذلك. وإذا كان وجوده مضرّا فإنّه يجب أن يكون شرّيرا في حدّ ذاته ولنا عندئذ ما يبرّر كراهيته.

وإزاء هذا الخوف من الآخر، نجد العنصرية تبرّر وتبعث الطمأنينة، تعذر العدوان وتبرّره. وإجمالا يتحقّق السّلوك من خلال حركتين متكاملتين: رفض الآخر وإثبات الذّات. وهما تفضيان إلى النتيجة نفسها : الاستقواء ضدّ الآخر. وإذا ما استخدمنا لغة التحليل النفسي فسنقول إنّ العنصريّة تمكّن من ترسيخ الأنا الفردي والجمعي. وهذا ما يتحقّق بمكر بلا ريب - ربّما كان الأمر بصفة ظرفيّة - وثمنه الظلم بكلّ تأكيد، إلاّ أنّ الحاجة إليه عندها تبدو ماسّة على نحو يجعل الأخلاق تتقهقر أمّا الأسطورة فتسود بسهولة.

وتوجد الإواليّة نفسها التي تبرّرها هذه المرّة المصلحة النفعيّة وذلك من خلال العدوان والاستخدام شبه الأسطوريّ لاختلاف (صادق أو كاذب) بيولوجي مّا أو غيره بمثابة التبرير لهذا العدوان.

مثّلت العنصريّة إيديولوجية استرقاق البيض والاستعمار الحديث. فقد جرى توظيف الحجّة البيولوجيّة لأوّل مرّة بصفة منهجيّة عند النبلاء الأسبان في صراعهم ضدّ اليهود الذين دخلوا الديانة المسيحيّة وحازوا تبعا لذلك حقوقا مساوية لأهلهم. وقد وجد هؤلاء النبلاء فرقا في "الدم" لا يمكن التغاضي عنه فكان لُقيتَهم الأخيرة للاحتجاج ضدّ ما تمّت حيازته من مكاسب وحقوق.

وسيستعيد النازيون هذه الفكرة لتبرير التوسّع الألماني. كانت الرأسمالية الناشئة في حاجة إلى استخدام اليد العاملة على أنّها قطيع ماشية وكان يتعيّن اعتبارها هكذا. ولذا دافع التاجر أو الطبيب أو المحامي في المجتمعات الليبرالية ممّن له سلوك عنصري أو مُعَادٍ للسّامية عن مصالحه الخاصّة ضدّ المنافسين السّود أو اليهود الذين يزعجونه.

وعلاوة عن هذا، لا وجود لتناقض بين التبريرين فهما غالبا متداخلان. لماذا نجد حاليا المواطن السويسري أو الفرنسي ممّن له وضعيّة اجتماعيّة متوسّطة أو متواضعة ذا سلوك عنصري غالبا في علاقته بالعمّال الأجانب الذين يقومون رغم ذلك بأدوار لا غنى عنها في اقتصاد بلاده؟ ذلك لأنّه يخاف. فهذا المواطن مسكون بقلق غامض من مثل هؤلاء الرجال المختلفين عنه والذين يوشكون على زعزعة أسس البنيان الاجتماعي المشدود إليه. وفضلا عن هذا فإنّه يعلم جيّدا أنّ أشدّ الأعمال صعوبة والتي غالبا ما تكون أجرتها زهيدة وذات امتيازات اجتماعيّة فيها أخذ وردّ تقريبا هي من الآن فصاعدا من حصّة المهاجرين. وبصفة غير مباشرة ينبغي عليه أن يضفي المشروعية على الامتيازات التي يحصل عليها وإن كانت محدودة بلا شكّ ولكنّها مع ذلك امتيازات فعليّة.

يفسّر مثلُ هذا الموقفُ آخرَ خاصّيات العنصريّة، ونقصد بذلك النزعةَ إلى التعميم وبلوغ المطلق. فهذا الفرد المُتََّهمُ والمحكوم عليه وهذه المجموعة الملعونة قدرهما أن يكونا كذلك دائما. إذ ما هو أفضل ضامن لبلوغ الأمان فعلا غير دونيّة لا طائل من ورائها؟. لا يوجد هذا الفرد من حيث هو كذلك، إذ أنّه ينتمي إلى مجموعة مصابة بعاهة لا يمكنه التخلّص منها، وهذا الشعب المغلوب لن يتسنّى له أبدا رفع الرأس. وهذه الجماعة المستبدة ستظلّ كذلك دائما بما أنّ تركيبتها تُدينُها.

وخلافا لهذا فإنّنا نفهم أيضا التنوّع في التمشّي العنصريّ. فإذا كانت العنصريّة تمتلك وظائف للطمأنة والتجزئة الايديولوجيّة فإنّ هذه الإواليّة العامّة تساهم في بروز مظاهر مخصوصة بحسب الملابسات والمجموعات القائمة.

ومن المفيد دائما أن نصف مختلف الوضعيات العنصريّة في خصوصياتها. فالطريقة التي يُعَامَلُ بها العمّال السّود في فترة مّا ليست هي نفسها التي يُعَامَلُ بها العمّال المهاجرون الأتراك أو من ذوي الأصول الأوروبيّة. ولقد ألقت حربُ الجزائر بثقل بظلالها على صورة العمّال الجزائريين. أمّا معاداة السّاميّة فليست مجرّد تنويع على العنصريّة.

إلاّ أنّ هذا التنوّع ينبغي ألاّ يحجب الطابع العامّ للظاهرة عبر الأزمنة والأمكنة والمجتمعات. وإذا كان من المسموح به مثلا الرّبط بين عدد من أنواع العنصريّة بالتطوّر الصّناعي والرأسمالي وبصراع الطبقات، فإنّه ممّا لا طائل من ورائه إرجاع جميع أشكال العنصريّة إلى مثل هذه العوامل، وإن كان البعض من هذه الأشكال يستلهم منها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق