الجمعة، 1 مارس 2013

مذكرات (4) صحفي موريتاني زائر لأثيوبيا: حوارات مع شبـان يضمرون حلم التغيير

الكاتب يتوسط شبان من أديس أبابا
نزلت في أول صباح لــنا إلى مطعم الفندق كي أتناول القهوة وأفطر فإذا بأحد الموظفيــن يقدم لي ابتسامة مطمئنة قبل أن يناولني موبايل "صينـي" ثم ضغط على زر ملف كان قد خزنه بشريحة الهاتف، وقـال بنبرة انجليزية باردة لكنها ماكرة"إنهــن صديقاتي وكلهن راقيات انه بودك أن تطلب أي واحدة منهن وفي أي وقت يناسبنك مقابل 20 دولارا فقط"...، و أردف مستعيـنا بكل أطرافه وجوارحه كي يكمل تسـويـق فكـرة بـدت مغرية في عيني بل شديدة الإغراء "أتمنى لك قضاء أوقات ممتعة معهن فهن قادرات على إشباع الرغبات والغرائز ويعملن "المسـاج" وفق مشيئتك".. كانت مقاصد الرجل "الخدمية" واضحة، فتحت الملف فوجدت أول صورة لفتاة تبدوا في الثانية عشرة تقريبا، سمراء، نحيلة، ذات شعر داعج وقصير، إبتسمت بمرارة وسألته " ?  what this girls" قاصدا بها "من هذه الصبية؟"، أجاب بتردد وهو يحك رقبته "25 دولارا لك أنت بس"..واصلت ممعنا –غفر الله لي- في مزيد مـن الصــور التي أرغمت الدولارات جسد صاحباتها على أن لا يكن عورة بعـد الآن!.
الرقص من ضمن لغة الجسد
فهل تراني أقدر على مواصلة التحديـق في نفس الوجوه الشاحبة وأن أفكـر طويلا في الأسـرة الضيقة الهزازة؟ نعـم أكملت القائمة، دون أن يخفى علي أنني في مدينة يموت فيها الصـوت وينـدفن الأنيـن؟... في مدينة تتقن لعبة ابتلاع بناتها والنواح عليهن بعد حين!. وأنه بإمكان ذئب مسعور في صباح أسـود أن يلتهم أسماك نيئة، من أحد أحواض "أديس أبابا" الآسنة.. ألقيت بنفسي على أول منضدة توفرها كافتيريا فندق العجائب ذاك، مذهولا، شارد النظرات أمام فاكهة وعيش وجبن وقهوة، وتفاح ما كنت أشتم فيه سوى رائحة لصدى الأنيـن..، مرت الأيام والتحرج حاصل بيني و"قــواد" لا يفتـر من بيع الرخيص، إن الفقر هو الحافز الرئيسي الذي يقود أولئك الفتيات إلى عمل الجنس التجاري، وهــو جريمة يمكن أن يعاقب عليها في أثيوبيا بالسجن النافذ.
وعزف على آلاتهم
دعيت إلى حلقة نقاش مع شبيبة أثيوبية كانت تبين عن إستثمار أوقاتها في الحديث حول الجنس، الرياضة وسباقات ألعاب القوى أو الموسيقى و الإفتتان بنجومها "القومـيين"..، ومع إشتـداد وطيس الحوار كنت أزداد تأففا وتعجلا لترحيل الحوار إلــى مواضيع أخرى كالسياسة في القارة الافريقية، وربما أنبريت مشيدا بموريتانيا التي بإمكان المرء فيها أن ينتقد دون خوف رئيس الجمهورية أو أي عضو من أعضاء الحكومة، قبل أن أهتف حانقا "أعـذروني فأنا لست راقصا"..، مط أحـد الشبان المستعربيـن بملل شفتيه ورد علي "هذه الخرافات التي تستنكف عن الحديث حولها، قـد تصبح بعد وقت حقائق كبرى من شأنها أن تساعد الشباب الأثيوبي لأجل التغييـر بواسطة موسيقاهم، ألا ترى أننا نتحدث عن الفخر والحماسة ووو!"..، وسرى مفعول مداخلة محاوري الواثقة في نفسي وهدأت من استعجالي المندفع للتغيير في بلاده أثيوبيا، ولقد كنت أجهل أن الزعيم السياسي الإنجليزي (تشرشيل)، كان أديبا وأنه قد حاز جائزة نوبل للآداب بناء على كتابه (الرسم: وقت اللذة)، ولأنني أجهل كل ذلك فقــد أدركت للتو أيضا، من قبل طالب جامعي آخر أن الكتاب يتضمن نصح أديب، أريب وتحذير سياسي مجرب لمن يستهين بأحلام وخرافات الشعوب!.!

ثم خرجت من تلك الجلسة الصاخبة بخلاصة مؤكدة حول شبان بات يتملكهم شعور طاغ بمكامن الثورة إنطلاقا من الرقص الفلكلوري، والموسيقى الشعبية، وبأن كل الآلات الموسيقية في العالم هي بـدايات لثورة فكرية أو مدنية، مـع اختلافات بسيطة تطبع التباينات الحاصلة بين الشعوب والتباعد الواقع بين القارات، و"الرقــص" و"الغناء" هو أحد مظاهر تلك الاختلافات لكنه مجرد وسيلة للتعبير عن الفرح أو السخط،.. ففي الستينيات من القرن العشرين التف الشباب البريطاني حول حركات احتجاج أسموها "الخنافيس"، واتخذ اعضاؤها من الرقص هــدفا يؤمل من ورائه أن تنفرج أزماته النفسية. وفي الولايات المتحدة كانت الطبول بداية لموسيقى الجاز، والطبول، أيضا هي بداية الزار[p1]  المنتشرة في الكثير من بلدان العالم الاسلامي، و"الناي" هو بدايات لوعــي الفلاح المصري، والذي تفعله القبائل الافريقية من الرقص في وجه أعدائها، يعدا حافـزا لـلانتصـار فيما بعد، وتتخذ هذه الأيام موجات الرقص موضة لمواجهة تيارات الإسلام السياسي أو الجهادي في تونس ومالي!!، وبالرقص يفرغ  الإنســان طاقاته العصبية من حالات الشد التي ترافق سلوكاته.

بالهناء والشفاء
وهنا في أديس أبابا، يعبر الرقص عن رفض كامــن في أعماق شبيبة تسعى إلى إسماع أصواتها وبعث الأمل في إنفتاح ديمقراطي، يبدوا بعيد المنال وهــي في سبيل ذلك تسيــر بتؤدة رغم مشاكل الفقر، الجهل والجفاف للإقتــراب من منابع التغيير، وحول الموسيقى كان  المفكر الإنجليزي (رسكن) يقول لمريديه: "أعطني زمام الموسيقى في أي بلد وأنا أغير لك هذا البلد!".
للــ"موسيقى" في إفريقيا وما يرافقها من "رقص" قيمة روحية قوية، تنضاف إلى كل القيم والطقوس الدينية أو الروحية التي تنظمها الفصائل والشعوب الأخرى. هكذا فهمت، وأدركت!.

في طريق العودة قادتني (Anene) للمرور بالقرب من القصــر الرئاسي المقام عند أسفل جبل "آنتوتو"، إنحدرت بنا التاكسي بشكل حاد قبل أن تلتفت إلـي صديقتي "إن كنت تحس بإنحاءة جراء إنحدار التاكسي فأعلم أن الموقع مصمم ليفرض على كل مواطن إلقاء تحية الاحترام المتوجبة على كل مار أمام المقام الرئاسي"،.. تدار أثيوبيا بواسطة "نظام إستبدادي"وفقا لتصنيف (ذا أيكونوميست-The Economist) لمؤشر الديمقراطية الذي نشر أواخر 2010، لتحتل بذلك المرتبة 118 من أصل 167 بلدا.

 ويعبر المشهد الذي ممرنا به للتو عن رضـوخ إجباري، ومهين للمواطنين من أجل التذكير بقوة رجل البلاد القوى حينها رئيس الوزراء الراحـل"مليس زيناوي". وحتى اللحظة الأخيرة لوفاته فقد واصل الرجل تعزيز سلطات حكمه فعليا من خلال سيطرة حزبه الأوحد، على كل مفاصل الدولة ومنع القوى الحزبية والنضالية والإعلامية من التعبير الحر..، فيما يبقي لرئيس البلاد شكليات الديكور المعلق على رأس جمهورية برلمانية اتحادية،  ولا اعتقد أبدا، أن أيا من تلك القيادة يستشعر أحلام أولئك الشباب!!! و لا هم يقدرون على كبح جماح الغضب الجماهيري حين يعلن الشباب  عن رفضهم لواقع التخلف وبطء التغيير.!؟؟؟

بعيد عودتي إلى أنواكشوط أمطـر هؤلاء الشبان بريدي الإلكتروني بـ"إيميلات" معبرة عن نوايا تضمر مطالب التغيير ..فمنهم من يكتب معولا على الجيش في المبادرة إلى التغيير الديمقراطي المنشود ويضيف "كما حدث عندكم في موريتانيا"!!. كما كتب أحد المنحدرين من إقليم أوجادين "لم أشأ ذلك المساء، أن أقـول لك أنه مع سياسة الفيدرالية العرقية المتبعة فلا أمل بالتغيير، عزيزي"...، وآخـرون غيرهؤلاء.!

شيء آخر بـقي لصيقا بـي ففي أديس أبابا كنت أجد دائما من يقول: هنا أنت كما تحب تكون! وهو تعبير يقترب كثيرا من حكم أهل الشمال الموريتاني حين يقولون "خلووه يقبظ صاحبو"،أي بسبب طبيعة ومستوى العلاقات الإنسانية التي تحددها بإختيارك،  ستدرك حتما. إن الإثيوبي قادر على أن يرغمك على أن ترتبط معه بعلاقات وصلات وربما تتحول الصلات إلى وشائج دائمة من نوع ما.

وهذا ما اكتشفته بنفسي؟ أو من خلال البريد الإلكتروني دائما، فقد مرت أيام وأنا أتصفح رسائل لأشخاص التقيت بهم مرة أو مرتين، حدثتهم ساعة أو نصف ساعة، دون أن أنسـى شخصا طريفا كـان قد قدم إلينا نفسه بصفته مراسلا إذاعيا ثم لم يبطأ أن عاد وهـو يتسول ثمن خبز "الأينجيرا[p2] "، .. وفي مرة أخرى جاءني وهــو يحمل آلة موسيقية أصيلة تشبه "آلة الرباب" عند شعب الفولان بموريتانيا، وطلب "براتBIR[p3] -" تمكنه من الحصول على خبز يدمن أغلب الأثيوبيين تناوله، تماما كما يدمن اليمنيين "القات"!!..

كل هؤلاء أصبحوا، فيما بعد أصدقائي على "الفايسبوك" أو "التويتر"، بالرغم من كون الحكومة الفيدرالية لا ترحب كثيرا بالوسيلتين، فعندما جرى اعتقالي بعد حادثة الكتب المحروقة تذكروني وكتب شبابهم بلغو لا أجيدها ولا أفهم مضامينها حول "المحنة" على ظهر صفحات التفاعل الإجتماعي.

إنها قصة لعلاقات ومشاعر صادقة هي ما أبقيه لنفسي من رحلة لم تدم طويلا، جعلتني قويا لأدرك أن الرغبات الجسمانية فانية، وأن السير وراء الشهوات يؤدي إلى سلوكات حيوانية مضطربة.






 [p1]جاء في دائرة المعارف الإسلامية : إن كلمة زار مشتقة من جار DJAR كبير آلهة الكوشيين الذي يتغير اسمه لدى بعض الطوائف إلى يارو YARO أو دارو DARO ، وظهر منه في إطار المسيحية الحبشية اسم روح شريرة هو زار ZAR الذي استعـاره المسيحيون الأحباش من بعض القبائل الوثنية .


 [p2]هو مادة إدمان يمضغها الاثيوبيين في حلقات إدمان


 [p3]اسم العملة الاثيوبية المستخدمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق