![]() |
الصوت |
في منتصف السبعينيات وتحديدا عام 1974كان الديجي المهاجر الجامايكي "كول هيرك"
يفتح للعالم بابا جديدا في الموسيقى بغض النظر إن كان ذلك عن سابق إصرار وترصد أم أنه
بمحض الصدفة!!
لقد كانت ساكنة حي "برونكس" الفقير في مدينة نيوريورك على ميعاد مع ميلاد
نمط جديد من الموسيقى لا هو "الروك أند رول" الذي طالما أطربهم و لا هو رنات
الصول Soulالمعذبة التي اعتادوها مع "جيمس ابراون"
Jams Brownأو "مارفين كي" Marvin Gayeو غيرهما و لكنه نمط جديد و ثائر يعبر عن رؤية جيل مختلف له
مشاريعه الفنية و رؤاه الحياتية الخاصة و فلسفاته الوجودية التي يجد فيها ذاته. لقد
كان هذا النمط طفرة موسيقية تمزج بين اللحن و الشعر تسمى "الراب" أو الهيب
هوبHip Hop
..
ظل هذا الفن منذ تلك الطفرة مغمورا و محصورا في الولايات المتحدة الأمريكية و في
الأحياء السوداء بشكل خاص من نيويورك إلى "انيو أورلينز" New Orleansو من تكساس Texasإلى "شيكاغو" Chicagoو حتى "افلوريدا" Floridaكمعبر عن هوية جيل
كافر بكل ما قدمه الكبار و يريد إثبات ذاته و ترك بصمته الخاصة على جبين الحياة, إلا
أن هذا الحلم لن يتحقق قبل مرور حوالي ثلاثين عاما و بروز مواهب موسيقية نادرة في فن
الراب مثل "تو باك شكور" T.pac Shakurو "نوتريوز بيك"
Notorious Bigو اللذان قتلا فيما بعد في
حوادث عنف لا تزال غامضة.. رغم أن هذين الموسيقين الكبيرين دفعا حياتهما خدمة للهيب
هوب إلا أن جهودهما لم تكن حرثا في بحر فقد اكتسحت موسيقى الراب العالم بعدهما و أصبحت
أشهر و أكثر انتشارا حتى من "الروك أند رول" نفسه على يد فنانين أحرقوا الآذان
بأغان ستظل محفورة في الذاكرة الموسيقية العالمية مثل روبرت كيلي R.Kellyو "أمينم"
Eminemو "ديمكس" DMXو "فيفتي سنت" 50 Centو الفتى المدلل "أَيكون" Akonحتى صار الهيب هوب
ظاهرة ثقافية عالمية و ربما هذا ما حدا بإحدى أكبر الجامعات الأمريكية و أعرقها و هي
جامعة هارفاد في بوسطن إلى إطلاق مشروع استمر خمس سنوات لجمع أول و أكبر إرشيف لموسيقى
الهيب هوب في العالم بهدف تحويله إلى مادة دراسية باعتبار أن الهيب هوب ظاهرة ثقافية
عالمية أفرو-أمريكية الجذور تستحق الاهتمام و الرصد..
هبت علينا ككل جيوب العالم القصية نسائم هذا النمط الموسيقي الثائر ففي موريتانيا
كانت فرقة B.O.Bأول من عاقر خمرة الراب بإدمان و إيمان على صفائح
صحرائنا الساخنة و كان ذلك خلال النصف الأول من التسعينات و نتيجة لطبيعة النظام آنذاك
فقد تمت مضايقتها مما حدا بأعضائها إلى اللجوء السياسي إلى بلجيكا و من هناك كان صوتهم
خافتا في رحلته للعبور من ضفة الأطلسي الشمالية إلى ضفته الجنوبية خاصة بعدما اتجهوا
للعالمية و أخذوا يغنون أساسا بالفرنسية و الانجليزية في جولاتهم الأوروبية..
بعدهم كانت هناك محاولات و تجارب كثيرة و أخذت فرق الراب تنمو في الأحياء الفقيرة
كالفطر كما خرجت أول مرة من رحم المعاناة و الحرمان إلا أن المواهب كانت نادرة جدا
حتى سطع نجم Papis Kimmyفأعاد الراب إلى حضن الجمهور
رغم امتعاضه من نظرة المجتمع الذي تتحكم فيه القوى الرجعية و الإقطاعية التي تقف في
وجه أي تغيير و أي فكر جديد حيث ألحقت كل من يمارس هذا الفن الرافض بزمرة الفسقة و
الخارجين على القانون و الأعراف و وسمتهم بميسم "الجينكات"_ و هي بالمناسبة
سبقت "البلطجية" و لا علاقة لها بهذا المصطلح السياسي "المكيف"
و المستورد_ و الغريب أن المجتمع - بما في
ذلك النخبة المثقفة- لم يستطيع التحرر من أسر القيود الاجتماعية ,فاعتبر هذا الفن مسخا
و محاكاة لا تعبر إلا عن انسلاخ صاحبه من هويته الثقافية بل و الدينية عند الكثيرين,
وقد عبر P.Kimmyعن هذا الامتعاض في ألبومه الثاني "Mauritanie"لكنه
ما لبث أن سقط في فخ السياسة حين مدح الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع و سافر إلى
أمريكا ليطل من هناك من حين لآخر في نسخته الإنجليزية فازورَّ عنه أبناء الأزقة الضيقة
و الظلام و أحياء الصفيح الباحثين عن فن ثائر بقامة و حجم ما يحسون به من حرمان و ضياع!!
في هذه الأثناء كان الراب باللهجات الوطنية مزدهرا خاصة بالبولارية عندما برزت فرقة
"Diam Mine Tekky"
و معناها:إننا نحمل الخير على رؤوسنا, فكانت أغانيها جريئة جدا فيما يتعلق ب"أحداث89
" التي راح ضحيتها جنود و ضباط زنوج و كان محور خطابها أساسا حول هذه الأحداث
إلا أنها فقدت كثيرا من بريقها بعد استهلاكها لهذه الورقة و عدم قدرتها على التجدد
و عجزها عن جمع الجمهور المختلف المشارب و الاهتمامات و اللغات و لم يبق من جمهورها
سوى بعض "الهالبولار" أي( الناطقين بالبولاية) و هنا بدأت تبرز قطبية مبنية
أساسا على تخندقات لغوية و اجتماعية فأصبح للولوف فنانوهم مثل "Dix milles probleme"
و للسوننيكي كذلك مثل "Mc Maller"
و للناطقين بالحسانية أيضا حيث كانت فرقة "أولاد البلاد" تصالح هذا الفن
الجديد المسمى الهيب هوب مع أكثر البيئات الاجتماعية الموريتانية تحجرا و رفضا للتغيير,
و كان طرح أولاد لبلاد اجتماعيا في معظمه و لم يقتربوا من نقد الواقع السياسي إلا فيما
بعد ثم ظلوا يراوحون بين السياسي و الاجتماعي و انتشروا انتشارا واسعا عندما ما غنوا
لانواكشوط الأوساخ و القاذورات "انواكشوط العاصمة اللا لوسخ" كما لاقت أغنيتهم
الشهيرة "المسكين" رواجا كبيرا في كل الأوساط و بمختلف اللغات لأنها لمست
جرحا مشتركا و عرَّت واقعا ظل الجميع يدينه بصمت و خوف! فرق أخرى في طور التشكل وأخرى
قطعت أشواطا على درب التعبير عن كل الأصوات المبحوحة التي ظلت مرمية على الهامش دون
أن تجد من يصدع بمطالبها الخافتة و الباهتة و الملحة في آن في غابة من الضجيج و الزعيق
المتغطرس الذي لا يمنح فرصة الظهور لأي صوت آخر لا يشارك في جوقته التائهة و الضالة
و قد أصبحت الفرق اللاحقة أكثر شجاعة في انتقاد الواقع المرير و المطالبة بالعدالة
الاجتماعية و تسوية القضايا الإنسانية الضاربة جذورها في أرضية التاريخ و كذلك المطالبة
بإنهاء التهميش و الإقصاء بحق مواطنين هم جزء من هذا الوطن وليس لهم من ذنب غير أنهم
عانوا من ظلم تاريخي ما زال مستمرا يحاول أن يقفز على الزمن و التاريخ و العقل!
هناك ظاهرة ملفتة للانتباه في الراب الموريتاني و هي أن مطربيه لا يقتصرون على
لغة وطنية واحدة بل يحرصون على توصيل رسائلهم بكل اللغات الوطنية متى تسنى لهم ذلك
و هو ما ينم عن حس وطني طاغ و عميق..
ازدهار الشعر ألقى بظلاله على فن الهيب
هوب فمطرب الراب الحقيقي يجب عليه أن يكون شاعرا مميزا فهو من يبتكر كلماته و تلعب
القوافي و الصور الشعرية دورا كبيرا في موسقة وتخييل تلك الكلمات التي يغني بها كما
تشكل شروطا أساسية لنجاحه و على عكس كل الأنماط الموسيقية الأخرى ليست رخامة الصوت
ضرورية في فن الراب.
الهيب هوب حالة ثقافية لا يمكن وأدها أو التغاضي عنها أو القفز عليها بل يجب تشجيعها
و ترشيدها و توجيهها دون إفراغها من روحها الثورية لأنها تعبر عن شريحة شبابية واسعة
فمطربو الراب كانوا أشجع بكثير من العديد من شعرائنا و كتابنا و صحفيينا الذين ظلوا
جميعا يدورون حول الجرح و لا يقدرون على تشريحه لتنظيفه و تهييئه للبرء, إنهم جيل لا
يؤمن بالركود و يتمرد على كل ما يتعلق بالدراعة و ربطة العنق الأنيقة و البذلة البورجوازية
ليبتكر نمطه الحياتي الخاص و يعبر عن أفكاره و طموحاته بشكل مختلف لكنه حضاري و سلمي
و إن كان المجتمع المحافظ في مجمله غير مؤهل ثقافيا ليفهم معنى هذا الاختلاف في الرؤية
و الفلسفة الحياتية و يكتفي بالقشور كقصات الشعر الغريبة التي لم يعهدها أو أنماط اللبس (مثل القمصان الهائلة و النعل الأبيض و البنطال
الهائج!) و الكلام الموقع بالحركات و هي أمور شخصية كلها لكنها مهما كانت غريبة فإنها
تعبر عن الاختلاف و عن حركية التاريخ التي لا يمكن لجمها بل يجب التعاطي معها بإيجابية
و وعي و أخذ و عطاء و ليس بالنبذ و الإقصاء لأن ذلك قد يعطي نتائج عكسية..علينا أن
نفتح حوارا اجتماعيا و ثقافيا و على جميع وسائل الإعلام الرسمية و الخصوصية من أجل
الرفع من مستوى الشباب و احتضان مواهبه بدل تسفيهه و نبذه, و الأغرب أن التلفزيون الوطني
ينفق ساعات و ساعات في بث مشاهد من خريف 2008 أو بث مسلسل أنتج منذ أكثر من عقدين بينما
المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية تتفاقم في صمت و لكن بسرعة مخيفة فإلى
متى سنظل منقطعين عن ذواتنا وهمومنا في هذا المنكب البرزخي بين نعومة الرمل و صفاء
النهر؟! نعم الهيب هوب ظاهرة ثقافية عالمية و أسلوب حياة و نمط عيش و رؤى فلسفية عميقة
تتمرد على مفردات الواقع اليومي الممل و المثير للضجر في بيئة تحترف قتل التنوع في
مهده. بيئة هشة لا تعترف بحركية التاريخ و تصر على العيش في عصور غابرة غير عصرها لكنها
مع ذلك قابلة للتحول و التثوير لو تكاتفت جهود كل القوى الثورية و التقدمية في سبيل
ذلك!!
حساب الكاتب على الفايس بوك:
https://www.facebook.com/cheikh.nouh
حساب الكاتب على الفايس بوك:
https://www.facebook.com/cheikh.nouh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق